كتاب " الولد المقاتل " ، تأليف مزين عسيران ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
قراءة كتاب الولد المقاتل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
الولد المقاتل
كيف يُجنّد هؤلاء الأولاد؟
الاعتبارات التي تُمهّد لتجنيدهم كثيرة. يُمكن أن يتمّ استخدامهم كحمّالين، وحملة بريد أو جواسيس، لكن سرعان ما ينتقلون إلى خطّ الجبهة. يَصِل الأمر أحياناً إلى تجنيد الفتيات، غالباً بالقوة، لكن عددهن أقلّ بكثير من الصبية «هن يستخدمن في الأغلب كطاهيات، مقاتلات و/أو خليلات. يمكن أن ترغم فتاة على «تلبية رغبة» عدّة جنود في القاعدة» (15).
هناك عدد لا يُستهان به من الأولاد يتطوّعون إرادياً: وذلك للبقاء على قيد الحياة، لأنهم لا يَملكون أي مكان يذهبون إليه أو لأنّهم يبحثون عن منزل وعن الغذاء والأمن، أو لإثبات رجولتهم، مدفوعين إلى ذلك من نظرائهم، أو رغبة منهم في الانتقام من الفظاعات التي ارتكبت بحقّ عائلاتهم أو طائفتهم. في الواقع، يزيّن رؤساء الحرب للمراهقين الذين يجندونهم إمكانية حماية من يخصّونهم أو الثأر لهم، ولكن يعدونهم أيضاً كذلك بتقاضي راتب بالدولار والإفلات التام من العقاب عن كل تجاوز يرتكبونه في مناطق القتال. أولاد الحرب هؤلاء يَحفظون في الذاكرة صورة الذين يكبرونهم سناً ممن نجحوا في الخروج من هذا البؤس المحزن في الضواحي والتحقوا بالميليشيات التي فتحت درب الثراء. وبالنسبة إليهم، بعد انهيار نموذج الوالدين، فإن النّجاح الاجتماعي الذي يتفاخر به أولئك الذي جنوا الثروات، سرعان ما أصبح موضوعاً يبهرهم.
غير أن الأمر يتعلق بتفسير مصطلح «إرادي»، بمعناه الواسع لأنّ الظروف هي على نحو لا تترك فيه إلا مكاناً ضيقاً لإجراء خيار حقيقي. فالبحث الذي أُجريَ لحساب منظّمة الأمم المُتّحدة من قبل مكتب كواكر (Quaker) لدى الأمم المتّحدة في جنيف أظهر أنّ السبب الأغلب الذي من أجله يتطوّع الأولاد إرادياً ويلتحقون بقوى المُعارضة المُسلّحة في بلادهم هو المعاملة السيئة التي فرضت عليهم وعلى عائلاتهم من قبل عناصر القوات الحكومية. لذلك فإنَّ الدرس الذي يجب أن تستخلصه الحكومات التي تزج بنفسها في قمع الداخل هنا واضح جداً.
ما هي العواقب؟
حياة الأولاد المجندين هي حتماً صعبة. فبمقدار ما هم أعضاء في القوات المسلّحة، يصبحون في النزاعات المسلّحة هدفاً للهجمات المشروعة، يخسرون الحماية العامّة التي هي من حقّهم بوصفهم أفراداً من السكّان المدنيين. وخلال المعارك، يقوم الأولاد بمجازفات كبيرة جدّاً كتلك التي يقوم بها الراشدون، بسبب عدم نضجهم النسبيّ وبسبب اطلاق العنان لوحشيّة وقساوة غريبة بالنسبة إلى أعمارهم. حتّى في القوات المسلّحة الحكوميّة، عُومل الأولاد في الأغلب بفظاظة، والعقوبات المفروضة عليهم يمكن أن تكون قاسية. حسبما جاء في بحث أعدّ للأمم المتّحدة «فإنّ أيّ محاولة للهروب يُمكن أن تؤدي إلى الاعتقال أو إلى إعدام سريع».
علاوة على أخطار الموت البديهيّة أو الإصابة بجروح خطيرة في المعارك، يعاني الأولاد ـ المقاتلون من المعاملة القاسية ومن «الإفراط في العنف» (16) الممارس من قِبَل رئيسهم بما لا يتناسب مع إمكانياتهم. فيُمكن أن تتشوّه أكتاف الأولاد وظهورهم وذلك بفعل نقل الحمولات الثقيلة جدّاً بالنسبة إليهم. كذلك فإنَّ سوء التغذية وإصابتهم بالتهابات في المجاري التنفسيّة والبَشَرة إضافة إلى أمراض أُخرى، هي حالات متكررة في صفوفهم، من ضمنها الأمراض القابلة للانتقال جنسياً كمرض السّيدا، أو كذلك المشاكل السّمعيّة والبصريّة.
الحرب، بخاصّة حينما تكون حرباً أهلية، تَخْلق كذلك شروط حياة ذات آثار نفسية أكيدة على كلّ شخص، لكن بخاصّة لدى الأولاد والمراهقين. فهؤلاء لا يعانون من اضطرابات ثانوية نتيجة الصدمات التي يَتسبب بها العنف الذي يواجهونه فحسب، بل أيضاً باضطرابات تتّصل بالسّجن وبصعوبة التنقّل وبالمحظورات المُتعدّدة التي تُفرض على الأفراد وإلى خسارة الحدّ الأدنى من الأمن، لاسيّما ذاك المتّصل بالمسكن (تدمير، طرد، اغتصابات) والتّماسك العائلي (اعتقالات، انخراط في الميليشيات، توقيف أعضاء من العائلة، إلخ) واجتماعية (تجنيد مقاتلين من بين أولاد في المرحلة المدرسيّة حال دون ذهاب عدد كبير منهم إلى المدرسة).
الجدير بالمعاينة أن المرء بدأ «فقط» إدراك مدى انعكاس النتائج النفسانية-المرضية الخطيرة على الأولاد المقاتلين، كذلك على المجتمع بمجمله؛ تلك الآثار الناتجة عن المُشاركة الفاعلة للأولاد في الأعمال القتالية، إذ كان هؤلاء شهوداً على الفظائع كما أنهم قد ارتكبوا قسماً منها بأنفسهم.
فالحرب اللبنانيّة قد عاثت فساداً طوال 17 سنة وخلّفت وراءها فضلاً عن الأضرار الماديّة المرئيّة والمحددة، تدميراً إنسانياً لم يُحصَ، خصوصاً بين الأولاد والمراهقين. لقد نشأ هؤلاء الأولاد في محيط تَمزّق فيه النسيج الاجتماعي القديم وتشوّه وغدا غير قابل للاستعمال فيما تتقاذفهم يمنة ويسرة، للبحث عن ملجأ لم يَكُن آمناً أبداً. لقد أصبحوا صغاراً مُقتلعين من بلدهم الخاص. وتركوا دون دفاع، ومُكوّمين في منازل وقتية وغير صحيّة يَنتظرون عودة افتراضية إلى مَقَام المَنْشأ الذي هو مَقَام أسطوري بالنسبة إليهم أكثر منه واقعياً.
لقد أمكن لنا حسب دراسات أُجريت في بيروت في العام 1996 استخلاص أنَّ مُستقبل هؤلاء المراهقين المقاتلين (البالغين من العمر حالياً أكثر من 30 سنة) هو أكثر خطراً على المستوى النفسي وأكثر مأسويةً على المستوى الإنساني ممّا نتخيّله.
ما خلا خاصية الحرب الصدموية بحد ذاتها، فقد جُحِد المُراهق ـ المقاتل بالإضافة إلى ذلك في مرحلة طفولته ومراهقته. ولقد نتج عن هذا الواقع، أنّ السيرورة النفسية التي يجتازها كلّ مُراهق لكي يَصِل إلى وضعية الراشد قد خطفت. لقد حصلت قطيعة في تطوره، وتكفّلت المخدرات والرُعب بإنهائه بما هو ذات و/أو تحويله إلى «آلة موت»؛ ليست فقط أنّاه قد دُمّرت، لكنّه أُصيب حتّى في مرتكزاته النرجسية.
أمّا أُولئك الذين أمكن لهم أن يَتَمسّكوا بأطراف المجتمع فقد استمروا في الصمود. وإنَّ اندماجهم الاجتماعي يطرح مشاكل ضخمة... وذلك ما يحثّ على طرح سؤال حول مصير الصدمية لديهم، الذي له علاقة ـ برأيي ـ مع مستقبلهم النفسي.