كتاب " سنوات النار - أبطال من هذا الشعب " ، تأليف أحمد الزبيدي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب سنوات النار - أبطال من هذا الشعب
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
سنوات النار - أبطال من هذا الشعب
أمّ السعد
(أ)
قرية الخرابات
قرية يسودها الصمت والظلام، بالرغم من أن هناك قانوناً يُلزِم أيّاً من السكان بحمل فانوس مضاء بعد صلاة المغرب وإلا تعرض لإطلاق النار عليه من قبل حرس الوالي... وهكذا فإن قرية الخرابات كانت تغرق في الظلام معظم أيام السنة ما عدا أيام قليلات مقمرات. ومع ذلك فإنه حتى في هذه الأيام كانت الدروب تخلو من المارة، فما أن يحل المساء حتى تهدأ أنفاس القرية وتخلد إلى النّوم، وتتعانق الخرابات ومقبرتها في صمت مريب.
كانت جدتنا أم السّعد تجوب القرية ليلاً كل يوم؛ في الأيام السوداء العديدة والأيام المقمرة القليلة، على السواء؛ ومن دون فانوس تذرع دروب القرية وهي تتمتم بكلمات وأغنيات، وفي الهزيع الأخير من الليل كانت تتجه صوب المقبرة، حيث تتلاشى هناك طوال النهار، أو هكذا يزعم السكان إن سألتهم باختصار.
من هي أم السّعد؟ وما حكايتها؟ ومن أين أتت؟ لا أحد يعلم أو لا أحد يريد ذلك، فأم السّعد أضحت جزءًا من حكاية قرية الخرابات، بل هي حكاية القرية الوحيدة التي تثير الكثير من الأقاويل والروايات.
الوالي ذاته كان من المؤمنين بسر أم السّعد وسطوتها؛ ولذا فإنه أمر حرسه بعدم التعرض لها، وإن لم تحمل فانوساً مضاءً أثناء الليل، ولو أنه غامر وأمر حرسه بخلاف ذلك فربما فوجئ بتمرد نفر من حرسه.
أم السّعد لم تكن تكلم أحداً، ولم يكن لها أي صلات ظاهرة بالأهالي، ولم يعرف قط أن لها صلات بالسلطات، وهي شخصيّاً لم تدَّعِ مكرمات، وجلُّ ما يُعرَف عنها حقّاً أنها تحدَّتْ أوامر الوالي بحظر التجوال من دون فانوس مضاء أثناء الليل. هذا الفانوس المضاء الذي كان يشي بشخص المتجول في الظلام ويقع ضمن نطاق المتعلقات الأمنية المهمة للسلطات العليا في المركز.
كان كل شيء في هذه القرية يشير إلى الماضي، وتتملكه الرتابة، حتى جاء القمر المنير في تلك الليلة الرائعة، فسكن القرية وأضاء دروبها، وداعب أشياءها القديمة، عندما كانت الخرابات تضج بالحياة، وتسكن جنباتها أغنيات الصيادين وأهازيج الرعاة.
في ليلة ظهور القمر المنير بدراً اندفعت الصبايا هازجات في دروب القرية، وغُبَّ خروجهن الجميل تقاطر السُّكَّان يهزجون في الدروب دونما فوانيس أو خوف. وعندما اعتدل البدر المنير في عليائه فاجأت أم السّعد الجموع التي انضمت إليها وهي ترقص مزغردة تقطع دروب الخرابات من المقبرة حتى سيف البحر.
صفحة المحيط الزرقاء كانت في ذروة نشوتها، وهي تحتفل باعتدال البدر المكتمل في عليائه، فاتسقت مويجاتها وهي ترقص ثملة، محتفية بمولد مثل هذا اليوم المتجدد كل عام في حياة هذه القرية.
في ثبات اتجهت أم السّعد صوب سيف البحر، وخلفها سار الأهالي، وعلى سيف البحر، حيث لامست خطواتها مدَّهُ، خلعتْ أم السّعد جلبابها وطفقت تسبح عارية نحو عمق اليَمّ.
وفي اللُّجة البعيدة، حيث لم يعد الأهالي يرونها، تحدثوا كثيراً في أمر هذه الليلة: لقد بدت أم السّعد في غاية الجمال وهي تلقي بجدائلها السوداء خلفها، وكان جسدها العاري يضيء كفانوس ألقى به من طرف المحيط بحار محب نحو اللُّجة الودود حيث تلاشت أم السّعد في اليَمِّ ولم يعد أحدٌ يعلم أين اختفت.
في تلك الليلة المقمرة، وفي الطرف الآخر من الخرابات، كان الوالي قد أعلن أقصى درجات الاستنفار، حيث دعا مجلس السحرة السِّرِّيَّ، الذي كان يرأسه سنواتٍ لاجتماعٍ مصيري، وأبلغ السلطات العليا بالأمر طالباً تدخلها المباشر.
مات الوالي وهو يقلّب الأمر في مجلس السحرة المحلي، حيث تملَّكه الشك والخوف، واعتقد جازماً أن أم السّعد طيف ساحرة وذات شأن.
وفي خضم هذه الأحداث التي أعقبت اختفاء أم السّعد في عمق البحر، واتساع رقعة الاضطراب الوطني العام، تلاشت أفراح الليلة المقمرة.. وحلت كوابيس الليالي السود.
بعد أن انسل الجنود يقودهم الرجل الإنجليزي، معلنين انقلاباً عسكريّاً، أكد هذا الأخير في مذكراته التي كتبها بعد تقاعده: أن أمر امرأة الخرابات كان يعد من متعلقات الحركات اليسارية، وأنه ربما كان للآخرين يد في ذلك، بيد أن الثابت أن امرأة الخرابات (أم السّعد) هي أميرة ساحرات «خور روري» المعادية، والخطيرة.
في الليلة التالية، ولأول مرة، أكد مجلس السحرة الجديد، علناً وعلى رؤوس الأشهاد، أن ما قاله الرجل الإنجليزي «صحيح وثابت، ويعبر عن روح إيمانية عالية».
* * *