كتاب " يوم من خريف العمر " ، تأليف طلعت العبد الله ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب يوم من خريف العمر
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
يوم من خريف العمر
هروب
كانت باريس على وسعها ضيقة في وجهي، فكنت أتحرك هنا وهناك من دون هدف إلا الاستمرار في عملٍ غير مجدٍ. لقد اتفقت وشريكي على التخلّص من مؤسستنا إما بالبيع أو بالإقفال، لأنه لا مجال للاستمرار، وليس هناك من مبرر للبقاء هنا، ولكن هناك بعض الأعمال التي يجب إنهاؤها.
منذ شهور وعلاقتي بشريكي الفرنسي علاقة جفاء، فأحاديثنا تقتصر على ما هو ضروري من الكلام، بينما كانت في السابق علاقة صداقة طيبة يسودها الوئام والوفاق والمصلحة المشتركة، وأحاديثنا متنوعة سياسية اجتماعية اقتصادية بمودة وتفاهم تامين.
في الدول المتقدمة بإمكانك أن تنشئ شركة بأسرع مما تتصور ما دمت تدفع ثمن ما تريد عمله، ولكن عندما تريد إقفال هذه الشركة فهناك إجراءات عليك القيام بها، وارتباطات يجب إنهاؤها تتطلب منك الوقت والمال.
وإذا كان العمل كاسداً، ورصيد الشركة في المصرف صفراً، وبالتالي، هناك التزامات كان على الشركاء أن يتحملا المسؤولية من رصيدهما الخاص للإيفاء بها، وهذا هو منطق الأمور، نجد أنه انطلاقاً من هذه النقطة بدأ التنافر يبرز في ما بيننا، وخصوصاً بالنسبة إلى الوقت الذي كان يتطلبه العمل داخل الشركة أو في خارجها، بالإضافة إلى دفع المستحقات المتوجّبة على كل واحد منّا.
كان صباحاً بارداً نوعاً ما، والسماء ملبدة بالغيوم الرمادية... إنها نهاية الصيف وبداية الخريف. لكن كان علينا التوجه إلى منطقة "بوجولي" بعد الظهر لنشرف على طلبية من أحد معامل القمصان لواحد من العملاء في أفريقيا، وربما قضينا الليل هناك لنعود في قطار الغد صباحاً.
كان من عادتنا أنا وشريكي أن نذهب سوياً للإشراف النهائي على البضائع قبل الشحن خصوصاً بالنسبة إلى عملياتنا في الخارج طبقاً للعقود مع المصانع، وحتى لا نقع في غشٍّ ما من قِبل هذه المصانع والنتيجة تكون خسائر كبيرة علينا.
كان جو المكتب كئيباً، وأنا أجلس ساهياً أرشف قهوتي وأدخّن بتوتر؛ الموظفون يجلسون بهدوء وصمت وخوف من المستقبل القريب الذي يتركهم من دون عمل على أبواب شتاء قارس يأتي مبكراً.
عند التاسعة والنصف لم يأتِ شريكي كي نهيِّئ للذهاب سوياً إلى المحطة على الرغم من أن قطارنا سينطلق عند الساعة الحادية عشرة.
دق جرس الهاتف على الطرف الآخر فإذا بشريكي يقول: أنا لن أتمكن من الذهاب معك إلى بوجولي، وعليك أن تذهب بمفردك، على كل حال، أنا قررت أن أقلِّص مسؤوليتي في الشركة.
كان الغضب يملأ كياني ويصعد إلى عيني. لم أجب، لكنني ألقيت سماعة الهاتف بعصبية، وكأنني أصفعه بقوة، مما لفت نظر المحاسِبة إلى تصرفي التي كانت تجلس في الغرفة المقابلة.
لحظات من التوتر العصبي كنت خلالها أذرع المكتب جيئة وذهاباً لأصل بعدها إلى قرار مفاجئ يتكون في داخلي ويهدِّئ من توتري.
نعم سأذهب لوحدي، لأنني بحاجة إلى يوم وليلة لأفكر وأفكر بمصيري، ولأنه يجب أن أخرج من هذا الوضع الخاسر، أي يجب أن أخرج من باريس الأعمال وإلى الأبد.
في القطار كنت أجلس باسترخاء وراحة وكأنني أضع هموم الدنيا جانباً، أتفرج عبر الزجاج على السهول الخضراء إلى ما لا نهاية، حيث بعض البيوت المبعثرة هنا وهناك، ومن ثمَّ غابات تسدّ الأفق. توقف القطار في بعض القُرى فرأيت الناس ذهاباً وإياباً نزولاً وصعوداً، بعضهم ضاحك وآخر مقطّب الجبين، هذا يهرول وآخر يتمشّّى كلٌ إلى سبيله، والشيء المؤكد والثابت بالنسبة للجميع أن لكلٍ منهم مشاكله الصغيرة أو الكبيرة التي تقلق حياته مثلي تماماً.