You are here

قراءة كتاب السيف والرصاص

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
السيف والرصاص

السيف والرصاص

كتاب " السيف والرصاص " ، تأليف أبو العباس برحايل ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2012 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 3

ولد يبدو في نحو عشر سنوات.. أي في مثل سن ولدي صخر تقريباً.. ترى لماذا تصب عليه جام غضبها؟.. بالتأكيد ليس ولدها.. جلت بناظري أتعرف على المعالم.. تغيرت شعبة الزيتون.. حوّل مقر البلدية الموروث عن العهد الاستعماري إلى مقر للدائرة، وعلى الرصيف المقابل شيد للبلدية مقر مشوه أقرب إلى السجن، بما أحيط به من جُدر خرسانية بشعة، وسياجات معدنية مقرفة.. اكتمل بناء المسجد الجديد سلمان الفارسي، واشرأبت أخيراً منارتاه نحو عنان السماء تناطحان السحاب. وزيِّنت أقواسه وحناياه بزخارف فاقعة من آي الذكر الحكيم من مثل: لا غالب إلا الله، وآية الكرسي، وبعض أسماء الله الحسنى، دون نسيان مضارعة لفظ الجلالة ومقابلته باسم النبي الكريم.. مضارعة قد تجافي عقيدة التوحيد، ومقابلة ربما تنافي الصمدية المطلقة، أليس في ذلك شرك؟.. ما يهم أن كل ذلك دبج في خطوط متباينة الأنواع، من الثلثي الوقور، إلى الديواني الغامض، إلى الفارسي المنساب، إلى الكوفي المتكبر.. وغاب الخط المغربي الذي كان يجب أن يكون الخط المهيمن على جدران مساجدنا، ليبرز مساهمة أجدادنا في بناء الحضارة..

إن الخطاط الذي نقش هذه الآيات، لا مشاحة أنه كان يشبع رغبة فنية في نفسه أكثر مما كان يتفطن للمعاني التي تحملها هذه الآيات والأيقونات، بدليل اختياره للنصوص والكلمات التي يكثر فيها حرف الألف واللام..

الرياء.. أقر بيني وبين نفسي بأني من كبار المرائين أحياناً، كان السجناء الأميون وأشباه الأميين يستفتونني في شتى الأمور الدينية، على الرغم من وجود موظف رسمي مأجور ومعين لهذا الغرض.. يقولون عني في السجن بأني مستقيم وخير من يصلح للوعظ والإفتاء، لأن الفقيه الموظف يتشدد في مواعظه وفي أحكام فتاويه، ويبالغ في وصف العقاب يوم الحساب.. وكأنه يضاعف العقاب لناس هم أصلاً معاقبون، وهم إذ يطلبون الفتوى، إنما يطلبونها طمعاً في التوبة وللتخفيف من وخز الضمير، وتحمل العقاب المسلط عليهم..

نعم إنهم على الرغم من علمهم وإلمامهم بشطر من الجريرة التي بها سجنت، وهي الزنى في ليلة مأتمية.. وهو أمر تتقزز منه النفوس الكريمة من دون أدنى شك.. كانوا يطلبون مني الفتاوى لأن طوايا نفوسهم ألهمتهم بأني، أنا زميلهم المأزوم، خير من يفهم مشاكلهم النفسية العالقة..

صحيح.. أنا لم أعترف يوماً بجريرتي كما يصفون، ولا حياة ابنة خالتي استنطقت أو اعترفت، لكن الحكم بني على تهمة ظنية لا أكثر.. ما اجتمع رجل إلى امرأة إلا وكان ثالثهما الشيطان.. وكان مصرع أخي عزوز هو الشاهد الأكبر لدى القضاة.. لم يبق أمامي غير الرياء فهو السلاح الماكر، الذي أناجز به هذا المجتمع الفاجر في الظلام، والمكبوت تحت النور.. لا ينضح الإناء إلا بما فيه، لماذا لم يتصور قضاتي مثلاً بأن ذهابي إلى حياة في حالكات تلك الليلة، إنما كان لسبب وظيفتها في المستشفى باعتبارها ممرضة، وأنني ما ذهبت إليها إلا لاستنهاضها لرعاية أوفر وأوفى لزوجتي نوارة في المستشفى.. كيف لم يتبادر لأذهانهم مثل هذا المعنى النبيل أبداً؟..

أنا لست بصدد الاعتراف أو عدمه عما ساقني لقصر حياة، وقد شملني ربي الرحيم بستره، وأودع في فؤادي سري، تماماً كما أنمى في رحم حياة شتات برق نيازكه التي فلتت هاربة من بين الصلب والترائب في زمن الارتجافة السرمدية القابسة لشواظ من أنوار زمن الغيب.. إنما أتساءل عن دوافع قضاتي في تجريمي، هل هي خبرتهم بالحياة؟. إذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن يكونوا هم أنفسهم قد مارسوا ما اتهموني به، وبالضرورة فهم يستحقون الحكم نفسه الذي أصدروه في حقي.. العدالة ـ سواء أتعلّقت بالأفراد أم بالجماعات أم بالشعوب والأمم ـ هي مهزلة تاريخ البشرية كلها..

درست التاريخ وتعلمت منه شيئاً واحداً، وهو أن كل قضية في مبدأ منشئها الجنيني تكون شفافة عادلة، فيضطهد أصحابها، ويتعرضون لكل ألوان الخسف والظلم والتنكيل، حتى إذا انتصرت وسادت، تنكر أصحابها لمبدئها الأول الطاهر، ومنشئها القدسي، ولبسوا لبوس جلادي الأمس، الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب، وقد تراجع وجعهم الأول الذاهب أمام نعيمهم القائم..

في نواة كل قضية عادلة تنشأ جرثومة العدوان والانتقام، لذلك ليس ثمة عدالة مطلقة في هذا العالم، وليس هناك مبادئ ثابتة، وإنما هناك تنازع دائم، ورؤى ومنافع ما تفتأ تتغير وتتحول لا أكثر.. الكل يلهج بمبادئ مزعومة ويعمل بما يناقض تلك المبادئ عندما تتناقض المنافع، ويمارس الرياء على نطاق شامل لا يكاد يستثني أحداً، لكن لا أحد يعترف بأنه يرائي ويخادع.. أنا أعترف بأني المرائي الغشاش حتى النخاع في مواقف معينة مثل غيري من الناس، لكني لا أملك الشجاعة الكافية لإعلان ذلك على الملأ، خشية تعرض مصالحي الأنانية لمخاطر غير متوقعة..

لذلك، فليبق هذا الاعتراف الجبان بيني وبين نفسي.. الناس في هذا الزمان لا يرحمون أولي النيات الطيبة، ولا يؤمنون بوجود ذلك العصفور الفردوسي الذي ينثر الخير ويصدح بأعذب الألحان، ويبشر بأرقى المبادئ. وإذا بدا أنهم آمنوا، فلأجل قضاء مآرب آنية مريبة.. العدالة هي المطلب الذي لم يتحقق قط في مسار الحياة البشرية كله.. اللهم إذا اعتبرنا سيادة القوة هي القانون الذي يحقق العدالة..

بعض رذاذ خفيف.. هذا أفضل، سيذيب الصقيع الذي سمّر الطين، وجمد الأوحال، وكلس الماء، وأخرج البخار الحار من مناخير المارة..

وضعت الحقيبة المعلّقة إلى رقبتي، واحتميت بسقيفة خالية لمحل الخضر والفواكه، أخرجت كيس الشمة، بالكاد جمعت في كفي رفعة، أخذتها بالسبابة والإبهام ورميت بها في حنكي.. ما أمرها وما أحرها!.. لكن بِمَ أخفف على صدري هذا الكلكل الجاثم من الهموم لولا الشمة؟.. لم أكن قبل السجن أشم أو أدخن. في السجن صرت مدمناً على الشمة.. أبو بكر السوفي علمني أن أشم الدخان.. كان من مبادئه، أن المرء بلا خصلة، هو مجرد رأس بصلة.. رجل تجاوز الأربعين، سيق إلى السجن بسائق أنه ارتكب فاحشة تعد من الكبائر.. ارتكب فعلاً مخلاً بالحياء في محله التجاري على قاصر ذكر، قام باحتجازه لأيام يغذيه من فمه بالطعام مقابل الفعل الدنيء الذي تقبله القاصر على مضض بدافع الحاجة، عملية فداها عشر سنين حبساً مغلقاً.. صاح فيه يوماً في صف الحساء عليّ أبو الكذاب المحكوم عليه هو الآخر في قضية سرقة المواشي:

".. أراك حقيراً.. محلك التجاري، إن كان كما تدعي، يغنيك لتستولي كل يوم على تسع وتسعين نعجة من نعاج سيدنا داوود.. لمَ رغبت عن ذلك، ورحت تتلطخ بعذرات الصبيان؟!..

Pages