You are here

قراءة كتاب على جناح الطير - سيرة المدائن

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
على جناح الطير - سيرة المدائن

على جناح الطير - سيرة المدائن

هذا النص حلم بكل "سميحة" كنتها، ولكن المخاتل والخطير، أن واحدة فقط، هي التي صارت عليها تلك الكثيرات، واحدة فقط تكتب عنهن، عن لحظاتهن، عن أماكنهن وأزمانهن، هي أنا، لن يكون عدلاً صياغة عوالمهن المدفوعة بحب اكتشاف الحياة وفق نظرتي التي تصور لي أنني أعرف أكثر،

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 7

مثلما يسمي اللبنانيون بناتهم باسم "تفاحة"، يطلق القطريون على بناتهم اسم فاكهتهم المحببة "موزة"، ويحلون مائدتهم بالحلوى العمانية التي تفوح برائحة المسك والزعفران، لكن تعاملهم مع الحلوى المصنعة في الخارج كان جديداً، يمكنك أن تسمع إشاعة دخول الشوكولاته البيضاء التي ظنوها صابوناً، وقد لا تصدقها إذا تسنى لك مشاهدة صواني الشوكولاتة التي يقدمها بيت الشيخ في الأعياد للزوار، لكني أتذكر بوضوح مفارقة غريبة، حين اشترت أمي علب حلوى "الجلو" من محلات السلام، وأهدت بعضها لعائلة قطرية تزورنا، فحولتها ربة العائلة إلى شراب، وكان ضرورياً أن تطلع على تجربة تجميدها في ما بعد؛ لتتعرف إلى كيفية إعداد "الجلو"، مع ذلك أذكر أن طبق القش الكبير الذي تستقلبنا به تلك العائلة وتسميه "الفواله"، كان يضم الحلويات والمكسرات والموالح والسكريات، وكنت مغرمة بالفواله القطرية، كما بأطباق الحلوى العمانية، وطبق الهريس المالح، حين يطبخ اللحم والقمح حتى يتحولا إلى عصيدة متجانسة.
تدخل الأطباق القطرية بيتنا في موسمين؛ الأول رمضان، نتساكب نحن وعائلة سلطان سيف، وقصر الشيخ محمد بن ثاني، وعائلة علي مفتاح، وعلي الأنصاري؛ يرسلون الهريس، ونرسل المحاشي وورق العنب والمنسف. يتكرر التساكب بنسبة أقل في الشتاء.
لم يكن ذلك يحدث بسبب المطر والزمهرير، فذلك أمر مستبعد في بلد حار مثل قطر، لكن المطر اليسير الذي يهطل كفيل بتخريب بيتنا وانشغالنا عن الطهو، ومدعاة لتعاطف أصدقائنا. عندما ينهمر المطر تكون الأجواء أميل إلى الدفء مقارنة بجبال عمان قارسة البرد، لكن سقف بيتنا لا يحتمل، فالبيت لم يكن حجراً أو إسمنتاً، إنه كرتون!
عسير أن نفهم أن بيتاً يقام من الكرتون، لكن سلسلة البيوت التي أقيمت على شارع الكهرباء على عجل للموظفين المعارين إلى حكومة قطر كانت بيوتاً جاهزة، خلطات من نشارة وورق وكيميائيات مضغوطة، مركبة على طريقة عجيبة، فالبيت الواسع بغرفه المتعددة وتصميمه البديع، والذي قلدناه حين بنينا بيتنا الحجري في عمّان، كان يكشف عن مثالبه تحت المطر، يبدأ السقف في التنقيط، تحديداً في الصالون الكبير، يتغير الأبيض في الأعلى إلى ما يشبه الكرتون المبلول المبقع، وتنتشر البقع في أرجاء المنزل، وتتزايد القطرات، نوزع الطناجر والطشوت تحت نقاط الدلف، وننام على صوت الهطل كل ليلة، نقضي نهارنا في تغيير الأواني، وإذا شاء حظنا في ذلك الشتاء أن تجود السماء، نسمع خبط تمزق السقف تماماً وتساقطه قطعة قطعة وقد اهترأ وتعفن، ننقل الأثاث من مواقعه، ونجفف الفيضان في أرض الدار، ثم مع انتهاء العصف في زمن قصير للغاية، نعيد تركيب سقف جديد.
قضينا ست سنوات في ذلك البيت قبل انتقالنا إلى بيت إسمنتي أنيق "دوبلكس" أي طابقان، في شارع مستشفى حمدة للولادة، الغريب بشأن البيت الأول أني كثيراً ما أراه في أحلامي، باب المطبخ المتحرك، والمغاسل المنتشرة في حجر النوم، وذلك الحريق الذي اشتعل فيه يوماً إثر ترك أخي خرقةً محترقة قرب برميل الكاز في الساحة، شبت النار حينها في واجهة المطبخ الكرتونية بسرعة مذهلة، وعبق المنزل بالأدخنة، تناول أبي جوازات السفر، وأخرجنا إلى الشارع، لكن وصول الاطفائية السريع أنقذ البيت، رممنا المطبخ، وعاودنا العيش في بيت الكرتون.
على باب بيت الكرتون دهس قطنا قيس، وفي حوض النعناع قمنا بدفنه، وفي التاسعة من عمري كتبت أول قصيدة رثاء:
يا قطنا الحنون عاجلتك المنون
دحرجك القدر أمام سائق مجنون
كنت سلوانا بلعبك اللطيف
وتارة كنت تركن في الحضن للسكون
مواء أختك الحبيبة لوعة وحسرة وكله شجون
مع هذا وذاك فإننا بالقدر مؤمنون
الفاتحة على روحك الغالية
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
لا يمكنني تلمس المراجع التي قادتني إلى كتابة ما ظننته الشعر، أهي المدرسة، أمي، شغفي بالقراءة! لا أعرف أيضاً أية مرجعية ثقافية جعلتني وأخوتي نسمي قططنا بأسماء العشاق المشهورين، قيس وليلى، وعنتر وعبلة، وروميو وجوليت، قطط صغيرة نتعثر بها كيفما تحركنا، ونلونها بأصباغ من البودرة، نعذبها وندللها، تخرمشنا وتقبع في أحضاننا تخرخر آمنة، عدا عن الأرانب في كراج البيت، والعنزة تحت السدرة، عالم الطفولة الفسيح الرحب الذي لم ينغصه إلا منعي من اللعب في الشارع أسوة بأخي، وحرماني من ركوب الدراجة.

Pages