You are here

قراءة كتاب أشباح الجحيم

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أشباح الجحيم

أشباح الجحيم

رواية "أشباح الجحيم" للروائي الجزائري المعروف بياسمينة خضرا، ترجمها إلى العربية د. محمد ساري، وصدرت عن دار الفارابي عام 2007:

تقييمك:
3
Average: 3 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 6

كَفْر كَرَم

1

كل صباح، تأتيني أختي التوأم بَهِيّة بفطوري إلى غاية غرفتي. تدفع الباب صائحة: "انهض، يا من بالداخل، ستخمر مثل العجينة." تحطّ الصينية فوق المائدة عند قدم السرير، تفتح النافذة وتعود لتقرص أصابع رجليّ. حركتها صارمة، تتباين بوضوح مع عذوبة صوتها. ولأنها كانت تكبرني ببضع دقائق، كانت تعتبرني رضيعها، ولم تتفطن إلى أنني قد كبرت.
إنها فتاة نحيفة، حريصة على النظام والنظافة إلى حدّ الهوس تقريباً. حينما كنت صغيراً، كانت هي التي تلبسني ثيابي وتقودني إلى المدرسة. وبما أننا لم نكن في قسم واحد، كنت أجدها دوماً أثناء الراحة في ساحة المدرسة تراقبني من بعيد، والويل لي إن قمت بعمل يجلب "العار للعائلة". بعد ذلك، وحينما بدأ الزغب يخط ملامح وجه الفتى الهزيل والبثير الذي كنته، سهرت بصفة شخصية لكبح أزمة مراهقتي، توبّخني في كل مرّة أرفع فيها صوتي أمام أخواتي الأخريات، أو أعبّر عن استيائي من طبق أكل أعتبره غير كاف لنموي. لم أكن ذا طبع شَكِس، ومع ذلك، كانت تجد فظاظة غير مقبولة في كيفية التفاوض حول بلوغي. أحياناً، تعيدها أمي إلى مكانها، بضجر ظاهر؛ تتعقّل بَهيّة مدّة أسبوع أو اثنين، ثم تنقضّ عليّ عند أوّل زلة.
أبداً، لم أتمرّد ضد تهجماتها المفرطة. بالعكس، كان ذلك يسليني في أغلب الأحيان.
- سترتدي سروالك الأبيض وقميصك ذات المربعات، أمرتني وهي تشير إلى الملابس المطوية على طاولة الفورميكا التي كنت أستخدمها مكتباً أيضاً. غسلتها وكويتها مساء أمس. عليك أن تفكر في شراء زوج حذاء آخر، أضافت وهي تدفع بطرف قدمها نعليّ المتعطنين. إن حذاءك هذا بلا عقب تقريباً زيادة على أن رائحة كريهة تفوح منه.
أدخلت يدها في صدارها وأخرجت منه أوراقاً نقدية.
- يوجد هنا ما يكفي من النقود كي لا تكتفي بصنادل مبتذلة. فكّر أيضاً في شراء العطر. لأن الرائحة الكريهة التي تنبعث منك ستجعلنا نستغني عن مبيد الصراصير.
وقبل أن أجد الوقت للاتكاء على مرفقي، حطّت النقود على وسادتي وانسحبت.
لم تكن أختي تشتغل. أُجبِرت على مغادرة الثانوية في السادسة عشرة من عمرها، بعد أن خطبها شاب من العائلة، ولكن هذا الأخير توفي بالسلّ قبل ستّة أشهر من الزواج، فبقيت تذبل في البيت منتظرة خطيباً آخر. ولم يسعد الحظ أخواتي الأخريات اللائي يكبرننا سناً. تزّوجت عائشة، أختي الكبرى، بمربي دواجن. وتقطن في قرية مجاورة في منزل كبير تتقاسمه مع عائلة زوجها. كان التعايش يتدهور من فصل إلى فصل إلى غاية اليوم الذي لم تعد تتحمّل فيه تنكيد بعضهن وتعسف البعض الآخر، فأخذت أطفالها الأربعة وعادت إلى حضن الأسرة. اعتقدنا أن زوجها سيأتي بعد أيام لاسترجاعها، ولكنه لم يفعل، ولم يقم حتى بمبادرة لرؤية أولاده أيام الأعياد. أختها الصغرى، عفاف، في الثلاثة والثلاثين من العمر ولا تملك شعرة واحدة على رأسها. خلال طفولتها، أصيبت بمرض أفقدها شعرها. قدّر أبي أنه من الحكمة أن لا يبعثها إلى المدرسة، خوفاً من أن تتحوّل إلى أضحوكة لدى التلاميذ. فعاشت عفاف منزوية في غرفة، كما المعوقة، ترقّع الثياب القديمة. مع الوقت، أصبحت تخيط فساتين تتكفّل أمي ببيعها هنا وهناك. وبعدما فقد أبي عمله جراء حادث، تولت عفاف إعالة العائلة؛ في تلك الفترة، لم يكن يسمع صوت على بعد أميال من منزلنا إلّا لدوران محرك آلة خياطتها. أما بالنسبة لفرح، صاحبة الواحد والثلاثين من العمر، فكانت الوحيدة التي تمكنت من مواصلة دراستها الجامعية، رغم استهجان القبيلة التي لا ترى بعين الرضا أن تعيش فتاة بعيدة عن أهلها، وبالتالي أقرب إلى الغواية. صمدت فرح وتحصلت على شهاداتها بتفوق. أراد عمّي الأكبر، فلاح ورع وودود، أن يأخذها زوجة لأحد أبنائه؛ رفضت فرح الطلب بحزم وفضلت العمل في المستشفى. أثار موقفها غيظ القبيلة، فقاطعنا الابن المهان بالجملة، متبوعاً بأبيه ثمّ أمه. اليوم، تشتغل فرح في عيادة خاصة ببغداد وتتقاضى أجراً محترماً. إن النقود التي تضعها أختي التوأم على وسادتي من حين لآخر، هي نقودها.
في كفر كرم، توقف الشبان في مثل سني عن إظهار علامات الفزع حينما تدس لهم خلسة أخت أو أم نقوداً في اليد. في البداية، انزعجوا قليلاً، وكي ينقذوا ماء الوجه، وعدوا بتسديد دينهم في أقرب فرصة ممكنة. كانوا جميعاً يحلمون بعمل يسمح لهم برفع رؤوسهم. ولكن الأزمنة كانت صعبة؛ لقد تمكنت الحروب وبعدها الحصار الدولي من إركاع البلد، وكان الشبان عندنا أتقياء ولا يغامرون للذهاب إلى المدن الكبرى حيث تنعدم فيها بركة الأسلاف، ويعمل الشيطان على تلويث الأرواح بسرعة الساحر...
في كفر كرم، لا نأكل من هذا الخبز. نفضل الموت على الإغراق في الرذيلة أو امتهان السرقة. مهما علا صوت السراب، فإن صوت الأجداد يطغى عليه دوماً - إننا شرفاء بالطبيعة.
التحقت بجامعة بغداد شهوراً قبل الاحتلال الأمريكي للعراق. كنت منتشياً للغاية. إن وضعي كطالب يعيد لأبي فخره. هو الأمي، حفار الآبار التعيس، أب لطبيبة ودكتور لاحق في الآداب. أليس هذا انتقاماً من جميع خيبات الأمل؟ أعطيت العهد لنفسي أن أكون عند حسن ظنه. هل حدث أن أحزنته مرة واحدة في حياتي؟ كنت أريد النجاح من أجله، لأراه يسترجع ثقته بنفسه، أن أقرأ في عينيه اللتين دمّرهما الغبار ما يخفيه وجهه: سعادة جني ما زرع - بذرة سليمة الجسم والروح لا تنتظر إلّا الانتشاء. وفيما كان الآباء الآخرون يتسرعون إلى ربط ذريتهم إلى الأعباء القاسية القاحلة التي كانت شقاءهم وشقاء أسلافهم، كان أبي يشدّ حزامه ويدّخر لأواصل دراستي. لم يكن أكيداً، لا بالنسبة لي ولا له، أن تكلَّل الدراسة بنجاح اجتماعي، ولكنه كان مقتنعاً أن فقيراً متعلماً أقل شفقة من فقير أمي، لا حول له. أكيد أن الشخص الذي يحسن قراءة رسائله الخاصة وملء الاستمارات، سيتمكن من الحفاظ على جزء غير يسير من كرامته.

Pages