قراءة كتاب أشباح الجحيم

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أشباح الجحيم

أشباح الجحيم

رواية "أشباح الجحيم" للروائي الجزائري المعروف بياسمينة خضرا، ترجمها إلى العربية د. محمد ساري، وصدرت عن دار الفارابي عام 2007:

تقييمك:
3
Average: 3 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 8

بالنسبة للكثير، فإن قريتنا ليست سوى مجموعة سكنية ممتدة في عرض الطريق، مثل بهيمة ميتة، لا يكاد المسافر يراها حتى تختفي عن الأنظار، ومع ذلك كنا فخورين بها. كنا دوماً نرتاب من الأجانب. طالما أنهم يقومون بدورات كبيرة لتفادي المرور علينا، كنا سالمين معافين، وإن كانت الرياح الرملية تجبرهم أحياناً على اللجوء إلى قريتنا للاحتماء، فكنا نقوم بواجب الضيافة وفقاً لتوصيات رسولنا الكريم دون أن نحاول إبقاءهم أكثر حينما يبدأون في جمع أمتعتهم. إن ما يأتينا من الغير يعيد إلى أذهاننا ذكريات سيّئة...
تربط علاقة قرابة دموية أغلبَ سكان كفر كرم. أما الباقي فإنه موجود هنا منذ أجيال عديدة. صحيح أن لنا خصوماتنا الصغيرة ولكنها لا تتدهور إلى حدّ الصدام العنيف. حينما تسوء الأحوال، يتدخل الشيوخ لتهدئة الأعصاب. وإذا قدّر المهانون أن الإهانة لا تغتفر، يتوقفون عن تبادل الكلام وتطوى القضية. من جهة أخرى، نحبذ اللقاءات في الساحة العمومية أو داخل المسجد، كما نهوى جرّ نعالنا في أزقتنا المغبرة أو التمدد تحت الشمس عند أسفل جدراننا المصنوعة من الطين الممزوج بالقش والتي تشوهها في بعض الأماكن لوحات من آجور البرباين المثلّم العاري. قريتنا ليست جنة الريحان، ولكن -الضيق في الذهنيات وليس في القلوب- كنا نحسن استغلال أدنى نكتة كي نطلق العنان للضحك والقهقهات ونغترف من أبصارنا ما نواجه به نوائب الدهر.
يبقى كاظم، من بين جميع أولاد الأعمام والأخوال، أحسن أصدقائي. في الصباح، حينما أخرج من دارنا، تقودني قدماي مباشرة إليه. أجِده بشكل دائم في زاوية أزقة الجزار، خلف حائط صغير، مؤخرته لاصقة على صخرة كبيرة وذقنه بتجويف يده، يحاول جاهداً أن ينسجم مع مقعده التعيس. إنه أيأس شخص عرفته. بمجرد وصولي قربه، يخرج علبة سجائر ويمدها لي. يعرف أنني لا أدخن، ورغم ذلك، لا يتردد عن تكرار هذه الحركة دوماً ليستقبلني بها. مع طول الوقت، ومن باب اللباقة، انتهى بي الأمر إلى قبول عرضه ووضع سيجارة في فمي. مباشرة، يقدّم لي قدّاحة ويسترسل في ضحك كتوم بعدما تجعلني النفحات الأولى أسعل بقوة. ثمّ، ينطوي على نفسه، العين سارحة، الوجه مغلق. كل شيء يتعبه؛ السهرات مع الأصدقاء كما السهرات الجنائزية. كانت المناقشات معه تتأزّم بسرعة، أحياناً، تنتهي بغضب عبثي، لا يعرف سرّه إلّا هو.
- ينبغي أن أشتري زوجاً جديداً من الأحذية.
ألقى نظرة خاطفة على حذائي ثمّ عاد إلى تأمل الأفق.
حاولت إيجاد حقل للتفاهم، فكرة للتحليل؛ لم يبدِ اهتماماً.
كان كاظم ضارب عود موهوباً. يكسب قوته بالمشاركة في حفلات الزواج. كان ينوي تشكيل فرقة موسيقية حينما فتّت القدر مشاريعه إلى مسحوق تذروه الريح بعيداً. زوجته الأولى، فتاة من القرية، ماتت في المستشفى جراء التهاب رئة بسيط. في ذلك العهد، كان مشروع الأمم المتحدة "الغذاء مقابل البترول" يتعثر وكانت الأدوية الأساسية تنقص كثيراً، حتى في السوق السوداء. تألّم كاظم كثيراً من فقد زوجته المبكر. أجبره أبوه على الزواج ثانية آملاً في تخفيف حزنه. ثمانية عشر شهراً بعد الزواج، أثكله مرض التهاب السحايا ثانية. بعد ذلك، فقد كاظم إيمانه.
كنت من الأشخاص القلائل الذين يخالطونه دون تعكير صفو مزاجه.
اقتربت منه وجلست القرفصاء.
مقابلاً لنا، تقع المداومة القديمة للحزب، والتي دشِّنت في احتفالية صاخبة قبل ثلاثين سنة، قبل أن تسقط في النسيان بسبب غياب الاعتقاد الأيديولوجي. خلف البناية المقفلة، تحاول نخلتان سقيمتان أن تنقذا ماء الوجه. بدا لي أنهما كانتا هنا منذ الأزمنة الغابرة، الشبح مبروم بشكل يثير الضحك، أغصانها متدلية وجافة. لا أحد يكترث بوجودها، باستثناء الكلاب التي تقترب من الجذع، ترفع القدم وتسقيه، أو بعض الطيور المسافرة الباحثة عن مِجْثَم شاغر. كانتا تحيّرانني وأنا طفل. لا أفهم لماذا لا تستغلان ظلام الليل لتختفيا إلى الأبد. روى لنا درويش جوّال أن النخلتين، في الحقيقة، كانتا ثمرة هلوسة جماعية تاريخية، نسي السراب أن يحملهما معه عند تبخّره.
- هل سمعت الراديو هذا الصباح؟ يبدو أن الإيطاليين بصدد حزم أمتعتهم.
- سيعطي لنا قدماً جميلة، قال مغمغماً.
- في رأيي...
- ألم تذهب لشراء زوج حذاء جديد؟
رفعت ذراعيّ إلى مستوى صدري علامة الاستسلام.
- الحق معك. عليّ أن أذهب لتنشيط ساقيّ.
أخيراً، رضي أن يلتفت نحوي:
- لا تنزعج من موقفي هذا. إن هذه الحكايات تسكرني.
- أفهم.
- لا تلمني. أقضي أيامي مضجراً، وليالي ساهراً أرقاً.
وقفت.
في اللحظة التي وصلت فيها إلى طرف الجدار الصغير، قال لي:
- أظن أن لديّ زوج حذاء. مُر بالبيت هذه الظهيرة. إذا كان بمقاسك، فإنه لك.
- موافق... سلام.
ها قد تجاهلني.

Pages