كتاب " سلطانات الرمل " ، تأليف لينا هويان الحسن ، والذي صدر عن دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
You are here
قراءة كتاب سلطانات الرمل
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
أرض متورطة سلفاً بلعب التاريخ. والسراب هناك هو الحاكم الذي داس أبداً على رفات الماضي، فيما الفراغ مثل ضباب لا مرئي يمشي، يتشابك مع الدروب، ليصنع حيرتك، وأنت تقف على مفترق لأكثر من درب ترابي عتيق شقّه يوماً حدس وحسب، وكل الدروب مشغولة وفق منطقهم اللامبالي بالاتجاهات والمسارات، لا قانون لوجهاتهم.
بعض الدروب تسلكها رغم أنه ثمة ما يلوح يؤكد أنها دروب مخادعة، لكنك تستمر في خطئك، جمال فريد ذلك الخطأ الذي يظل يذكرك بكل ما هو عابر.
خلال أقل من سنة مات الكثيرون «منشان عيون قطنة» وأنجبت «قطنة» طفلة كارثية الجمال سموها: «عنقا».
ليس هنالك ما هو أصعب من كره النساء للنساء، إنه البغض بعينه. انصبَّ الكره الأعمى على «قطنة». كرهتها النساء وتربصن بها كلما خرجت من خدرها ورافقن خطوها وهن يهمسن بخفوتٍ أقسى اللعنات. و دعونها: حُرْمة دِما، وحُرْمة «حمرا». تسمع كل ذلك وتلوذ بكبريائها بصمت، تتجاهل همسهن الغاضب وتكمل طريقها.
صباح يوم انتفش ذيل حصان زوجها وعرفت أنه ذاهب إلى حرب قد لا يعود منها، وعقب مذبحة أخرى فعلها «طراد» بحق عشيرة الزوج خرجت «قطنة» إلى النساء اللواتي تجمَّعن أمام خيمتها وقد ارتدت الحرير الأحمر القاني وهي تصيح بهن بثقة: «انظرن ، أنا هي الحرمة الـ«حمرا» حرمة الدِما، انظرن كم هي فاتنة»، خلال ذلك عاد زوجها من الحرب، كان جريحا في كتفه ومضمداً، رأى جرأة «قطنة» وحزن نساء عشيرته، كان لا فرار من العقاب، سحبها إلى المحرم ومزق الحرير وانهال بالخيزران على ظهرها العاري. اغتسلت بدمها ولم تصدر منها أنة وجع، خرج وقد اختلط دم جرحه بدماء ظهرها.
بعد أيام حدثت حرب أخرى هزمهم فيها «طراد» هزيمة مذلة، وهجمت النساء إلى منزل «قطنة»، وتلك المرة لم تسكت، واجهتهن بالشتائم، وخلال ذلك قالت ما لا يغتفر: «تنجبن غنماً ليذبحهم «طراد»، اذهبن إلى «طراد»، واستلقين على ظهوركن لتنجبن الرجال»، قالت ذلك وجثت أمام «سطام» وعرضت حنجرتها لسيفه.
بعض البشر كانوا ـ في أغلب الظن ـ مصنوعين من الأنوف، أنوفهم تصلصل، ترن، تعصف، لا تأفل. موعظة حقيقية تعلمك معنى أن ترفع أنفك وتنفث نرجسيتك مثل ماء سيل عجول ناعمة مهددّة، مزودة بطبائع الجارفين، إضافة إلى أنها نحت بارز في الصخر.
لم يطاوعه قلبه، لم يستطع أن يقرب حدَّ سيفه من عنق طالما قبله متلذذاً، لكنه طلقها. ويممت وجهها صوب العراء.
في ذات الليلة أخَذَت الماء والخبز وعلى ظهر «ذَلول»(*) اتجهت إلى ديار بني صخر حيث «طراد». كان الوقت ربيعاً من النوع الذي يسميه البدو ربيع «الصفارى» حيث لا تنمو إلا الأزهار الصفراء، وبعد منتصف الليلة الثانية أناخت «ذلولها» عند أول خيمة بلغتها عند أطراف المخيم. كانت عطشى وجائعة. الخيمة كانت لراعي غنم فقير بلع دهشته من امرأة فاتنة على «ذلول» تأتي في منتصف الليل.
كانت تشرب الماء، حين تيقن الراعي أنها «قطنة» بذاتها، جمالها لم يكن يخفى على أحد، ذبح لها جديا صغيرا ووضعه بالقدر وسألها: «هل أذهب وأخبر طراد»؟!.. أحنت له برأسها وغادرها وهو يقول لها بأن «طراد» وراء التل التالي و إذا ما تأخر عليها فلتتولى أمر اللحم وتأكل ما طاب لها من الأكل.
هرع إلى «طراد»، وعندما وصل إليه طلب أن تكون البشرى ناقتين وفرساً وعشرة مواعز وعشرين شاة..
قال «طراد» قولاً شهيراً تحفظه الصحراء كلها: «إن كانت «قطنة» قد تركت سطام من تلقاء نفسها أعطيك ثلاثة أضعاف ما طلبت، أما إذا تركته رغما عنها عماني الله إذا نظرت إلى وجهها».
لما رجع الراعي كانت «قطنة» تقرب أول قطعة من لحم الجدي إلى فمها، هتف الراعي بلهفة السؤال: «قولي يا«قطنة» بأنك تخليت عن سطّام من تلقاء نفسك»، لم يفت «قطنة» الحديث الذي دار بين الراعي و«طراد»، قبّلت قطعة لحم كانت تهم بأكلها امتناناً للراعي وألقتها على الرمل، كان الراعي آخر من رآها.
في ذلك الفجر بالذات بَرَحَ عن شماله قطيع غزلان إلى يمينه والعرب يتشاءمون من قطيع الغزلان البارح... وتمضي آلهة الصحراء عارية، أشباح اللات والعزى ومناة من طين وكبرياء.
مطلقٌ هو الحب، والكلمات هناك ليست حُليّاً، إنما كائنات من روح ودم تلبس حرير مصبوغ بالعاطفة.
خرجت «قطنة» إلى «ذلولها» وغادرت على ظهره دون ماء أو زاد واتجهت صوب عتمة الصحراء.. الصمت التائه في وهاد الزمن.. حيث لا طرقات أو لافتات، فقط دروب افتراضية.. دروب يمكن أن تنمحي بعد أن تعبرها، أو درب حرون يقودك عبر انحناءات لطيفة إلى الصرامة بعينها.. ويمكن للدروب هناك أيضاً أن تتقاطع مع بعضها بشكل متحمس فتقف هناك لتمزقك الحيرة باحتقار فخور، ودروب تحدثك عن كل ما هو عابر. السراب مبتلّ بلعاب الشمس والأفق المرشوش بالأوهام يعلن عن بزوغ زهرة فريدة..
أيضاً.. هنالك أشياء لا يقولها الذئب لأحد، تحديداً للغزالة، لا يخبرها كم أن الصبر يقضمه ليلاً وهو جائع وتتبدى له الغزالة كحلم، أيضاً يستمع لقرقرات معدته الفارغة يصمت جوعه إلى أن تلوح الغزالة، ولأن ذاكرته يحفظها بين أسنانه، يقتل الغزالة.
* * *
«ومن المعروف أن أصل الخيول الإنكليزية الكريمة كافة يرجع إلى ثلاثة جياد عربية نقلت إلى إنجلترا في القرن الثامن عشر وهي بايرلي تورك ودارلي أرابين وجودولفين بارب.. وقد كان هذا الحصان من سلالة «معنقي» وقد أرسله توماس دارلي ـ وهو مندوب للمؤسسة التجارية الإنجليزية في حلب ـ سنة 1705 م إلى أخيه السيد بروستر دارلي الذي لقب «فارس ألدبي بارك» وقد نشأت في هذا القرن في عدة بلدان أوروبية إسطبلات حكومية وخاصة للخيول العربية، إلا أنها كانت تهدف بالدرجة الأولى إلى التهجين مع خيول عربية أصيلة»..
* أوبنهايم
«خَرْما» الفرس الدهماء مهرة الفرس «رفعة» والحصان «الرثوعي» انتزعها «فيصل» من ««طراد بن زبن» في حرب تواجهت فيها القبيلتان.
طعن «فيصل» غريمه وأوقعه أرضاً، صاح به «طراد»: «ياخيّال، امنع»، من عادة العرب في الغزو والحرب أنه يمكن للمطعون أن يطلب روحه دون أن يكون في ذلك انتقاصاً من رجولته و يعود القرار للطاعن، يومها اكتفى «فيصل» بانتزاع الفرس «خرما» وترك لـ«طراد روحه، وجرياً على عادة العرب، عندما يستولي البدو خلال معركة على خيول لقبيلة أخرى فإنهم يبعثون رسولاً منهم يتمتع بحصانة أكيدة في تلك الحال إلى القبيلة الأخرى ليستفسر عن نسب الخيول المسلوبة.
«فيصل» أرسل رسوله إلى «طراد» وتقصى تماماً عن نسب «خرما»، ولاحقاً أنجبت «خرما» مهرة تشبه الفرس «رفعة» وتوفرت فيها ميزة يعشق البدو توفرها بأفراسهم، فقد كان لون شفتها العليا فاتحاً مع لون داكن لبقية رأسها، أرسلها «فيصل» ـ كما يقتضي العرف البدوي ـ إلى «طراد» الذي أعطى الرسول الذي قادها إليه ناقة وعشرة شياه.
بعد اختفاء «قطنة» بثلاثة أعوام، قُتل «طراد».
قاد «طراد» تمرداً غريباً من نوعه. كان يعرقل صفقات مبيع الخيول العربية التي أصبح الأجانب مولعين باستيرادها لأسباب كثيرة ولعبة البولو التي يعشقها الانكليز كانت سبباً أساسياً لتصدير معظم الأفراس الرشيقة إلى بومباي في الهند. رفض «طراد» خروج الخيول ذات الأصول النجدية الصرفة إلى بومباي لأنهم كانوا هناك يضرّبونها بخيولهم. ورفض معاملة الخيول كما تعامل الماشية حيث اكتشف أن الأجانب كانوا يقومون بتوسيم الخيول على أكتافها. قُتل «طراد» بيد ضابط انكليزي كانت مهمته جمع الخيول الأصائل وإرسالها إلى انكلترة. حدث ذلك خلال رحلة إلى عمّان واختفت الفرس «رفعة» إلى الأبد، فيما السراب يتنكر بهيئة جواد شديد الغرور تحته الكثبان تسفيها الريح ومع كل شكل جديد تأخذه، تنقل رسالة.