You are here

قراءة كتاب أصل وفصل

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أصل وفصل

أصل وفصل

كتاب " أصل وفصل " ، للمؤلفة سحر خليفة ، والذي صدر عن دار الجندي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب :

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: دار الجندي
الصفحة رقم: 3

سـتي زكية

كانت ستي زكية القحطان أحلى راوية ورواية. كانت تقصّ علينا القصص فننسى العالم ونسرح وندوخ وندخل معها عبر الكانون عوالم مسحورة ، لها نوافذ تنفتح على أفق أزرق فنعلو ونطير كعلاء الدين، تلك القصص كانت حواديث. أما عن الناس، فتقول فلان قال: كذا ...وتبدأ بالقصّ وبالتقليد حتى تظن أنك تسمع ما قاله فلان شخصيا، يعني صوته، يعني نَفَسه، يعني الشخرات وهو يضحك أو يتجشّأ، فنضحك ونقول: آه يا ستي، ما أحلاك! لكنها حين تهلل نبكي ونموت في داخلنا؛ لأن التهليل يذيب الإحساس ويُخرج منا حناناً دافقاّ مثل المطر ودموع الحب. أما القمر فله قصة، قصة تتعلق بالتنجيم. يعني تفتح؛ يعني تكشف، يعني تقول: انكشف وبان، فيجمد فينا خفقان القلب.

قالت أمي في ذاك الليل: هل انكشف؟ ماذا رأيت؟ قالت: يا حرام! قالت: قولي! قالت: يا حرام. هتفت أمي: من هو؟ من مات؟ قالت: آلاف، ناس مثل النمل، وعَلَم كبير يسقط من فوق ويغرق بالدم. الدم للركب، آه يا ويلي! وبكت وبكينا وما زلنا نرتعد بخوف.

كنا نجلس في ذاك الليل على الشرفة. ستي تمسك بصفحة مرآة، وظهرها مقلوب لوجه القمر، والقمر بدر كالمرآة، أبيض ناصع، وبوجه جميل. كان الفصل صيفا، وكانت الطريق إلى حيفا قد سُدت بمدافع ودبابات. كنّا صغارا، وكنّا نسمع نشرة أخبار تقلقنا وتقول: اليهود أخذوا يافا، أخذوا حيفا، أخذوا صفد، أخذوا الرملة. وبدأت جيوشنا تتراجع، وبدأ التاريخ يهرب منا. كنّا صغارا، وكنّا نخاف مما نسمع. لكن الكبار كانوا أشطر. ثم مع الوقت هبط التاريخ وباتوا أصغر. لماذا ؟ ما السر؟ قالوا سقطت وها هم في القدس. قالت أمي: هذا كذب، هذه إشاعات. هيا نفتح؛ فالقمر يقول ما لا نعرف، وكان ما كان، وقالت ستي: آه يا ويلي. يا حرام، يا حرام! وظلَّت تقول كلمة "يا حرام" حتى ماتت، وصرنا يا حرام!

أما قصة ذاك الفتح، فهي التالي: الدنيا ليل، والقمر الكامل كالفضة، وأمي تجلس خلف الجدة تقرأ آيات من القرآن، وستي تمسك بصفحة مرآة تكشف فيها. أحيانا تمر بضع ساعات ولا تكشف، وأحيانا بضع دقائق، فتقول: فتح. فتسكت أمي، وتقول: هس، ولا نص كلمة. ولا نكون بحاجة لذاك التنبيه، إذ كلمة فتح تعني القمر بدأ يفتح، أي يتنبأ، أي ستي تقول ما يكشفه داخل مرآة. هل يتحرك؟ يعني الأشياء والعوالم داخل مرآة تتحرك؟ كانت تقول: مثل السينما، مثل الأفلام. يعني أفلام أنور وجدي وعبد الوهاب وليلى مراد في شاشات تحكي بوضوح. لكن القمر لا يتكلم، فقط الصور مثل السينما من غير كلام. أي صور تتحرك وآدميون يمشون ببطء، وكذا الأشياء تتحرك. صور ورموز ومعان لا نفهمها إلا حزرا. نحزر ما معنى ذاك الرمز وتلك الصورة. يعني العَلَم حين تهاوى فوق الرؤوس في برك الدم كان النكبة، فبكت ستي، وقالت: راحت، ضاعت البلاد. وبدأت تبكي فحدقت الأمّ وقالت بخوف: لا مش معقول‍ !‍ فقالت ستي، وهي ترمي بتلك المرآة: أقول لك راحت، ضاعت البلاد، والناس يا حرام مثل النمل، والدم للركب، آه يا ويلي!‍ ورمت المرآة.

كان ذلك قبل النكبة ببضعة أشهر، وكنا ما زلنا نتفاءل، وكان العرب مثل النمل، وجيوش زاحفة من سيناء ومن العراق ومن الأردن. كنا نظن أن القوة هي بالكثرة.كنا نظن أن العرب أقوى وأهم، مثل العيلة.‍ لكن القمر قال قوله، وانكفأ العَلم فوق رؤوس تغرق بالدم. هل كانت ستي تتخيل؟ أنا لا أعرف. أنا حتى الآن لا أعرف. أحيانا أقول مثل الأحلام، يعني تفسير تلك الأحلام. لكنني أعود وأتذكَّر ما قاله القمر عن أشياء لم نفهمها في ذاك الوقت ثم مع الزمن تحققت على سطح الأرض. فما سر القمر ومرآته وهل من تفسير؟ وهل هذا ما يذكره بعض النشطاء في ذاك العِلْم أو ذاك الفن عن قوى خفية ننكرها لأنّا بالأصل لا نعرفها؟ أنا لا أعرف. وقد كنت أقول وأنا أصغر، وأنا ما زلت أتفلسف، تلك خرافات نبدعها أو نصنعها حتى نفهم، وتكون النتيجة لا نفهم . والآن أقر بعد كل السنين، وبعد تجارب تخترق العظم: أنا لا أفهم. لكن ستي الأمّية، وما كانت تقرأ أو تكتب، وكانت أمية على السكين، كانت تفهم. وهذا ما قصدت بلغة القمر. يعني المخبوء والغائب والمستبطن في أزمنة فوق الإنسان.

Pages