كتاب " بصمة نبي وإعجاز مربِّ " ، تأليف الشيخ عبدالكريم تتَان ، والذي صدر عن
You are here
قراءة كتاب بصمة نبي وإعجاز مربِّ
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
كما نجد فيه صفة جُبل عليها ابن مسعود، جعلت فتيلة مصباحه قابلة للإثارة حال شمها ما ينيرها، هي صفة الأمانة، جسَّدها موقف واضح لا التواء فيه، قال فيه: "إني مؤتمن ولست ساقيكما".
كما نقرأ منه الرغبة الصادقة في التعلم حين قال للرسول عليه السلام: "علمني من هذا القول"، فدل على نفس منفتحة تقتنص ما يلوح لها من ظواهر مثيرة، فتتجه إليها بإخلاص، وقد رصد الرسول عليه السلام تلك الرغبة، وعرضها مثمرة حين قال: "إنك غلام معلم"، وكأني بابن مسعود راح يلتهم العلم التهاماً، ويلهمه غيره كذلك، فإذا به أكبر من كيانه المادي الذي رصدت السيرة حجمه بآلاف المرات، كان يوماً يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه. فضحك القوم منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مم تضحكون؟ قالوا: يا رسول الله! من دقة ساقيه! فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد[7].
وتشرق عبارة من المشهد، فإذا بحنايا نفس ابن مسعود ظاهرة مكشوفة لما سأل الرسول السقيا فأجاب عبد الله: "إني مؤتمن، ولست ساقيكما".
حدد عبد الله المهمة التي أنيط به القيام بها، وبنى عليها السلوك الذي يصدر عن تلك المهمة، إن الأغنام التي يرعاها ليست له، وهو مؤتمن عليها، وعليه أن يحافظ عليها بما يطيق، ولن يفرط بشيء منها، وإن كان لا ينقصها عدداً، ويمكن تعويضه كاللبن الذي يتأتى من الغذاء الذي يطلبه عبد الله لها برعيه إياها، ولعمر الحق هو منهج رصين، به قوام الصلاح في المجتمع، وغيابه يعني زحف الفساد والشر، وهيمنة الفوضى، وسريان القلق، وفقد الثقة، واضطراب العلاقات الاجتماعية، أجل حيث تغيب الأمانة غياباً كلياً أو جزئياً تدب الخيانة في عروق الحياة، ويطل الفساد بوجوهه المتعددة في نبضاتها، وتزحف الهواجس المرة المخيفة الخانقة عبر النفوس، تدمر منها الطمأنينة والثقة والتسليم. وتضيع الحقوق وتتقطع الأواصر، فالأمانة خلق يحتاج إليه الراعي والرعية، والعامل ورب العمل، والتاجر والزبائن، والموظف وما أسند إليه القيام به مع المراجعين، والمدرس والتلاميذ!
إن ابن مسعود رضي الله عنه أفصح عن صفة قائمة في ذاته، صفة محمودة هي من صفات الرسل عليهم السلام، وإن كانت في الرسل أعمق وأشمل وأدق، ويكفي أنها في نفس ابن مسعود صفة مستقرة استقرار الفطرة في الخلايا، لا يملك معها أن يراوغ أو يداري أو يوارب، أو يتذرع بأحوال ربما رآها غيره أنها ترخص له باختراق هذه الصفة وتحييدها أو تخديرها لتجرى عملية الخيانة دون ألم، ثم لتحضر بعدها الأمانة ومعها كل مشاعر العزة والإباء واليقظة، فحضورها بعد إمضاء الخيانة لا يعدو مجرد ألم أو لوم أو تأنيب يبدأ حاراً ثم لا يلبث أن يبرد، إن عبد الله بنى موقفاً سلوكياً بعدما حدد صفته بأنه مؤتمن بـ"لست ساقيكما" هكذا بعبارة.
إن مما تناوله علماء التوحيد قضية النبويات إلى جانب الإلهيات والسمعيات.. فالإلهيات تعني ما يتعلق بما يجب لله تعالى وما يستحيل وما يجوز، والسمعيات تشمل كل القضايا الإيمانية التي جاءت بها النصوص من قرآن وسنة، كعالم الآخرة وما فيه، أما النبويات فميدانها ما يجب للرسل عليهم السلام من صفات، وما يجوز في حقهم وما يستحيل. وقد أكد علماء التوحيد أن الرسل عليهم السلام يتصفون بكل صفات الكمال البشري، كما يتنزهون عن كل نقص يعتري غيرهم ويزري بمنزلتهم العلية، إذ إن الله تعالى قد اصطفاهم ليحملوا رسالاته إلى الناس، ومن هنا أبعد الله عنهم كل عيب بشري أو نقص يحجب عن الهداية إلى الله تعالى، فبرأهم سبحانه من العيوب، ونقاهم عن النقائص، فكانوا على أكمل صورة من صور البشرية، وقبل أن تقف قبالة موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من رد ابن مسعود، وقد عرضنا طرفاً منه، وما أروعه! نسوق - هنا - ما ذكره العلماء بشأن الأمانة على أنها مما يجب للرسل عليهم السلام مع صفات أخرى، وربما جرنا الاستطراد المتصل إلى ما أيد الله به الرسل في دعوتهم الخلق إلى رحاب الله تعالى.