كتاب " بين العسكرية والسياسة (ذكريات) " ، تأليف عبد الرزاق اليحيى ، والذي صدر عن
You are here
قراءة كتاب بين العسكرية والسياسة (ذكريات)
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
1
مرحلة الطفولة والشباب - وعي مُبكّر
دراسة ونضال وهموم
ولدت في فلسطين في قرية الطنطورة ذات الحضور المتميز على الشاطئ الممتد جنوبي حيفا، وفي بيئتها ذات الجمال الأخاذ نشأت، وفي مجتمعها المتماسك تكونت الأسس التي نمت عليها شخصيتي. أطللت على الدنيا في صباح يوم الجمعة الخامس عشر من آذار 1929، فصرت الولد السادس لأبوين أنجبا أحد عشر إبناً وإبنة، فضلاً عن الذين أنجبهم أبي من غير أمي.
أبي هو عقاب اليحيى. وهو رجل ظفر بتعليم جيّد وقت أن قلّ المتعلمون في القرى، ووجيه لم يقتصر نفوذه على الطنطورة بل امتد في المنطقة فصار من زعمائها. وأمي هي بهية الحوري، أبوها عبد الرزاق الذي حملت أنا اسمه وهو لبناني الأصل كان تاجر جملة انتقل من بيروت إلى حيفا وأنشأ في المدينة الفلسطينية تجارة واسعة وبنى لأسرته فيها منزلاً عند رأس الدرج الطويل في شارع ستانتون، وهو المنزل الذي كان بمثابة قصر نشأت أمي فيه. وقد ظفرت أمي هي الأخرى بالتعليم في وقت ندرت فيه المتعلمات من النساء حتى في المدن. وكان أبي ينظم الشعر ويتكلم التركية بشكل قليل شأنه شان المتعلمين من أبناء جيله. أما أمي فقد درست في إحدى المدارس الخاصة المرموقة في حيفا، وكانت تتكلم التركية، وبشكل محدود الفرنسية. ولم يكن غريباً، إذن، أن ينشئ أبواي أسرةً أبناؤها جميعهم متعلمون، ذكورهم وإناثهم، وأن يكون أنسباؤهم أنفسهم من المتعلمين. وأخي الأكبر إبراهيم، أخي لأبي من زوجته الأولى، كان بين أبناء الطنطورة هو أول من ظفر بالدراسة العليا، فقد درس الطب في الجامعة السورية بدمشق، ومارس مهنته بعد التخرج في العاصمة اللبنانية بيروت.
كان منزلنا في القرية هو المكان الذي يقصده المحتاج الى قراءة رسالة أو كتابة رسالة، من ابناء قريتنا وابناء القرى المجاورة. هذا المنزل الذي ولدت أنا فيه كان داراً كبيرة من طابقين، وله ساحة خلفية واسعة طولها 100 متر وعرضها حوالي 30 متراً، تضم مذاود للخيل وحظائر لتربية الماشية، وأماكن إقامة للعمال، ومخازن، كما كانت توجد حواصل في الطابق الأرضي من الدار تمتلئ بشتى أنواع المنتوج والأدوات. وكانت للدار ملاحق: مبنى استخدم في وقت من الأوقات خاناً بلغة ذلك الزمن، وديوان هو المضافة التي لا يقفل بابها لا في الليل ولا في النهار، المضافة التي يؤمها أهل القرية للتداول في الشؤون الخاصة أو العامة، ويجيئها الزوار القادمون من خارج القرية ويحظون فيها بالرعاية والتكريم، ويؤمها الغرباء وعابروا السبيل فيظفرون بالمأوى والطعام مهما امتد أجل إقامتهم فيها، وقد أقيمت هذه الدار على شاطئ البحر عند حد الماء مباشرة لا يفصلها عن البحر سوى الحاجز الذي يطوّق قاعدة المبنى وكان يسمى القماط والذي أقيم ليحمي المنزل من الأمواج.
الطنطورة التي عرفتها أقيمت على أنقاض المدينة الكنعانية دور التي كانت في العهد اليوناني ميناء مزدهراً وبقيت كذلك إلى ان تغلبت عليها قيسارية في العهد الروماني. وقد بقيت بين دور القرية وفي محيطها آثار الحضارات المتعاقبة كالكنيسة البيزنطية والمدرّج الروماني في تل البرج وبقايا سور في شماله. والذين بنوا القرية الحديثة من ناس وفدوا إليها من خارجها، بعضهم وفد من مصر، وبعضهم وفد من جنوب فلسطين أو من قرى أو مدن مجاورة. وحين ولدت أنا، كان عدد منازل القرية قد اقترب من الثلاثمائة وعدد سكانها اقترب من الألف. وكان معظم السكان من المزارعين وصيادي الأسماك، وقد تميزت الطنطورة بالتعاون السلس بين أبنائها. والواقع أن هذا التعاون بلغ شأناً متقدماً حتى لقد أُنشئت في القرية في مطلع الأربعينات من القرن العشرين تعاونيتان كبيرتان ومتماسكتان: واحدة لنقل الركاب وكان اسمها شركة سيارات الشاطئ والثانية لصيد الأسماك.
أما آل اليحيى ومنهم أسرتي، فقد ملكوا أراضي شاسعة في القرية وخارجها. وكانت أسرتنا بالذات من المالكين المتوسطين. وكانت لوالدي مطحنة تقع عند مدخل القرية من الشرق وما زالت آثارها قائمة حتى الآن. ولم يكن أعضاء الأسرة يمارسون العمل الزراعي أو الصيد، بل كانوا يستخدمون الأجراء للعمل في أراضيهم ومشاريعهم وكان معظمهم يعيش في منطقة جسر الزرقاء بالقرب من قيسارية. وإلى الدار الكبيرة والأراضي الزراعية، امتلك جدّي لأبي مطحنة قديمة ضمّها بناءٌ كبيرٌ ما زالت آثاره قائمة قرب الشاطئ، وكان عمي أحمد قد بنى فوقه بيتاً حديثاً له. وكان تاريخ إقامة البناء وارداً في أبيات من الشعر منقوشة على جداره الأمامي تدلّ على أنه بني في الربع الأخير من القرن التاسع عشر. ولئن غدا هذا كله دماراً فقد بقيت أطلاله مع أبيات الشعر ماثلة تُذكّر كل من يعنيه الأمر بالذي كان وهو يُستعمل الآن من قبل صيادي الأسماك كمخزن لأدوات الصيد.


