قراءة كتاب بين العسكرية والسياسة (ذكريات)

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بين العسكرية والسياسة (ذكريات)

بين العسكرية والسياسة (ذكريات)

كتاب " بين العسكرية والسياسة (ذكريات) " ، تأليف عبد الرزاق اليحيى ، والذي صدر عن

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: دار الجليل
الصفحة رقم: 10

ففي عكا، توقفت عن ممارسة رياضة الجري، وانتسبت إلى فريق كرة قدم في مدرستها. وكان هذا الفريق وقتها ضعيفاً. أما الفرق القوية في فلسطين فكان منها آنذاك فريقان شهيران: فريق النادي الإسلامي في يافا وفريق النادي الإسلامي في حيفا. وكان في عكا فريق مدرج في المرتبة الثالثة بعد هذين الفريقين هو فريق الكابري. وقد اجتهد فريق مدرستنا ليطور نفسه وأنا فيه، ولن أنسى أبداً اليوم الذي لعبنا فيه مع فريق الكابري ففزنا عليه بهدف واحد مقابل صفر، وكنت أنا هو من سجل هدف الفوز هذا. ولكم ارتقى طموحنا بعد هذا الفوز، حتى لقد تطلعنا إلى مباريات مع فريقي القمة في يافا وحيفا!

وفي بيت إقامتنا، في المنزل، كان المشرف هو مدير المدرسة الابتدائية واسمه محمد أمين. وكان على متعهدٍ موكلٍ بجلب ما يلزم من تموين أن يوفر حاجة التلاميذ منه. غير أن هذا المتعهد كان يرغم التلاميذ على أن يجلبوا من منازل ذويهم ما يمكن نقله من مواد التموين المحفوظة، البامية المجففة، والملوخية الناشفة، والسكر، والرز، وما إلى ذلك، وكان يحسب ما يجلبه التلاميذ في عداد ما يشتريه هو. وقد أثارني هذا الغش الصارخ. وانضاف ضيقي بالغش إلى ضيق الجميع بإهمال المشرفين على المنزل دواعي النظافة ووجود البق والحشرات الضارة الأخرى في كل مكان، فاشتد إحساسي بالتأذي، ولم أسكت على الضيم، بل قدمت شكوى إلى مدير المدرسة الثانوية سامي عيد. وكان هذا المدير يحبني فتقبّل الشكوى وأحالها إلى إدارة المعارف طالباً التحقيق. وجاء مفتش المعارف جميل الزنانيري واختلى بي فأطلعته على تفاصيل الوقائع التي اوجزتها في الشكوى. وحين انكر المتعهد والمشرف التهم، شهد التلاميذ جميعهم بما يؤكدها. وتلقى اللذان ثبتت إدانتهما العقوبات والإنذارات الحازمة. وانصلح الحال. ومنذ تلك الواقعة، وجدتني وقد صرت ممثل التلاميذ عند الإدارة، وبقيت على هذه الحال إلى أن غادرت عكا.

وغني عن البيان إني اهتممت بالتعرف على المدينة. فقد جلت، أنا الجوال المثابر، في كل مكان في عكا، وتفحصت آثار الغزوات التي تعرضت لها في تاريخها الطويل، وتتبعت آثار محاصرة نابليون للمدينة والقذائف التي صبتها مدافع الفرنسيين عليها، وشاهدت الجنود البريطانيين وهم يجرون تدريباتهم ومناوراتهم عند التل الذي يحمل اسم نابليون. وكنا نحن طلاب المنزل، نذهب أيام الجمعة إلى هناك على الدراجات الهوائية لنأكل الخسّ.

ولقد فتنتني أشياء كثيرة في عكا التاريخ والثبات في الحصار. أما أكثر ما فتنني فكان سور المدينة العتيق واستعصاؤه على محاولات زعزعته، المحاولات التي اقدم عليها الإنسان أو ثابرت عليها ظواهر الطبيعة. ومن الجدير بالذكر أن نابليون بعد أن فشل في عكا تركها وانسحب جنوباً حيث قام بتدمير الطنطورة أثناء مروره منها في شهر آب عام 1799م. واعتقد أن نابليون أقدم على فعلته هذه ثأراً لهزيمته في عكا، فكان إن فش غليله بخبطة غضب مدمّرة في الطنطورة.

ومن الزيارات التي تركت في نفسي أثراً عميقاً زيارتي مع تلاميذ الصف لسجن عكا ووقوفي فيه إزاء المكان الذي أعدم البريطانيون فيه بعد سنة واحدة من مولدي المجاهدين الثلاثة الذين أصبحوا أشهر من فتك بهم البريطانيون من شهداء فلسطين، محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي. وكان من البديهي أن يحضرني في وقفتي تلك ما قاله إبراهيم طوقان عن ساعة إعدام هؤلاء:

أنـا ســاعةُ الــرجل العـتيدِ أنا ساعة البأس الشديــدِ

أنـا سـاعة الموت المشرِّف ِ كـــــل ذي فعـــل مجــــيد

مـا نـال مـن خَــدَمَ البـــلاد أجــلَّ مـن أجـر الشــهيد

كانت تلك في عكا سنة من سنوات الحرب العالمية الثانية. وكان البريطانيون يبثون الدعوة إلى دعم المجهود الحربي ونبذ الإسراف ويحثون على التقشف. ولئن لم يُعن أهل البلاد بدعم المجهود الحربي لمحتلّي وطنهم ولم تتوفر لمعظمهم القدرةُ على الإسراف حتى لو رغبوا فيه، فإن الدعوة إلى التقشف لم تبق بغير فائدة. وأنا أتذكر كيف تعلمت الاستفادة من القناني الفارغة بدل إلقائها في القمامة، بقطم الجزء العلوي من القنّينة بوسيلة بسيطة شاع استخدامها هي الخيط، لتصير بقيتها كأساً يُنتفع به. كما تعلمنا الاقتصاد في استخدام الورق والمغلفات وغير ذلك. والواقع أن الحرب كانت قد بدأت وأنا في الطنطورة واستمرت وأنا في حيفا ثم رافقتني في عكا. وقد شاهدت وأنا في الطنطورة هجوم الغواصات الألمانية على قافلة بواخر تجارية بريطانية وإغراقها عدداً من هذه البواخر، وكان المنظر مأساوياً مرعباً. وعاينت في اليوم التالي جثث القتلى من بحّارة تلك البواخر التي دفعها الموج إلى الشاطئ، وخالجني شعور عميق بالحزن والأسى.

وفي حيفا، شاهدت غارات الطائرات الألمانية على الميناء التي نجحت في إصابة محطة تكرير النفط فيه أكثر من مرة ودمّرت عدداً من حاويات التخزين الكبيرة وأشعلت النار فيها. وكان البريطانيون، في إطار خطة الدفاع الجوي، قد أنشأوا عدداً كبيراً من الحرّاقات على طول السّاحل بين حيفا وعكا، تُطلق دخاناً كثيفاً يُغطّي الميناء عند الانذار عن غارة جوية محتملة، كما نصبوا المدافع المضادة للطائرات على قمّة جبل الكرمل، وأطلقوا مجموعة كبيرة من المناطيد الثابتة تعلو في سماء المدينة لمنع الطائرات الالمانية المغيرة من الانقضاض على أهدافها. وكانت الطائرات الالمانية تستهدف هذه المناطيد قبل القاء قنابلها فتفجرها فتسقط البقايا في الاحياء المأهولة أو خارج المدينة. ولأن قماش المناطيد كان من نسيج ناعم فما كان انفعه للناس الذين صنعوا منه أفخر القمصان والقنابيز وتباهوا بها. وفي عكا، لاحقتنا اندياحات الحرب، وكنا نتقصى أنباءها في الإذاعات، ونبحث عما تخفيه الإذاعات التي يراقبها الحلفاء في ما تبثه إذاعة برلين باللغة العربية ومذيعها الشهير حسن البحيري والذي كان يبدأ إذاعته بصوته المجلجل وعبارته المشهورة: حيِّ العرب، هنا برلين هنا برلين.

وفي هذا كله، كنت أفرح كلما تعرض البريطانيون لخسائر. وأظن أن معظم أهل فلسطين كانوا يفرحون. وهل يمكن ألا يفرح الإنسان إذا تعرض عدوّه للخسارة!

بقي أن أقول عن عكا إني تعرفت فيها على جماعة الشاذليّة، عرفني عليها زميل صفّي أحمد اليشرطي، ابن شيخ الجماعة آنذاك والذي حلّ فيما بعد محل أبيه. وكان أستاذ اللغة العربية في المدرسة رفيق اللبابيدي شاذلياً، وقد زرت زاوية الجماعة أكثر من مرة كنت ألتقيه فيها هناك. أما اليهود فلم يكن بيننا وبينهم اتصال. حتى المهرجانات الرياضية والمسابقات التي تنظمها دائرة المعارف الحكومية كانت تقام في مستويين أحدهما منفصل عن الآخر، واحد للتلاميذ العرب وآخر لليهود.

وفي العام 1945، انتقلت إلى القدس، وكانت تلك المرة الأولى التي أجيء فيها إلى المدينة، والتحقت بالصفّ الثانوي الثالث في الكلية العربية تلميذاً في القسم العلمي الذي اخترته بالرغم من تفوقي في المواد الأدبية أيضاً وولعي بها. وأقمت في القسم الداخلي.

وكان تلاميذ هذا القسم موزعين على منزلين، أحدهما قائم في مبنى الكلية مخصص لأبناء المدن أو الذين يلتحقون بالكلية بشكل مبكّر، وثانيهما مخصص للقادمين من الأرياف أو الذين يتأخرون في الالتحاق بالكلية. وكان هذا المنزل الثاني منفصلا عن مبنى الكلية، وهو المنزل الذي حللت أنا فيه. وساعدني هنا أيضا شقيقي الأكبر فؤاد بنفقاتي الشخصية، وفي المنزل التقيت ذوقان الهنداوي ومحمد نوري شفيق موفدين من الأردن. والى التدريس الذي تتولاه نخبة من خيرة اساتذة البلاد، كان النشاط الرياضي بأنواعه المتعددة متاحاً في الكلية، بل مطلوباً. ولأني كنت لاعب كرة قدم وعداءً وسباحاً متميزاً، فقد صرتُ في الكلية رئيس الفريق الأول لكرة القدم، والسباح الأول وممثل الكلية في سباقات الجري. ولكني اعتذرتُ في سنة الدراسة الأخيرة، سنة المترك، عن ممارسة هذا كله، فحَلَّ محلّي أحمد زيد الكيلاني الذي كان يأتي بعدي في عدو المائة متر، واستطاع أن يكون الأول في سباق الركض السنوي.

كانت الكلية العربية التي تجمع نخب طلاب فلسطين وأساتذتها الذين لعب كثير منهم أدواراً مهمة في حياة البلاد العامة تشهد نشاطاً سياسياً واسعاً. إلاّ أنّ هذا النشاط لم يجتذبني أنا المنهمك في الدراسة والرياضة والمعني بالشأن الثقافي منذ كنت في مدرسة الطنطورة وليس السياسي.

وكنّا، وأنا في عكا، نتلقى المجلتين الشهيرتين، "الثقافة" و"الرسالة"، ونلتقي في اجتماعات أسبوعية نتناوب فيها لمناقشة المقالات الواردة فيهما، والتي يكتبها كبار الكتاب في مصر أمثال طه حسين، وعبد القادر المازني، وعبّاس محمود العقاد، وتوفيق الحكيم، وغيرهم.

وكان يعجبني طه حسين بسلاسة كتاباته وعمقها، وعبّاس محمود العقّاد بأفكاره وجرأته في عرض هذه الأفكار. وقد تركت متابعتي لمقالات هؤلاء الكتاب الكبار أثرها في نفسي وفي تفكيري وثقافتي العامة، وظلّ اشتراكي في الثقافة والرسالة حتى بعد تخرجي من الكلية العربية. أما في القدس، فقد اختلف الأمر عنه في عكا، وطغى النشاط السياسي على ما عداه. وتوزّع الطلاّب بين مؤيّدين للمجلسيين ومؤيّدين للمعارضة. لكنّي لم أنجذب لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، بل ثابرت على ما كنت فيه مع اهتمامي بالشأن العام المسكون بالهمّ الوطني كغيري. أما ما لم أنجذب إليه فهو النشاط الحزبي أو الانغماس في العمل السياسي المباشر. لقد قررّت أن أستغلّ وجودي في الكلية العربية لأستفيد أكثر ما يمكن من الدراسة هناك تمهيداً لمتابعة دراستي العليا في واحدة من الجامعات الأجنبية العريقة المعروفة للتخصّص في أحد فروع الهندسة. لقد تابعت نشاطي السياسي العام مع امتناعي عن الخروج مع الطلاب حين يتظاهرون تلبية لدعوة أي حزب.

وقد وقع عليّ الأستاذ الخالدي مرة وأنا جالس في الصف وحدي بعد أن خرج الجميع للتظاهر وسألني عن سبب إحجامي عن المشاركة في ما انهمك فيه الجميع، فقلت إني هنا من أجل التعليم، والتظاهر يحرمنا من الدروس اللازمة للتقدم فيه، وطلبت أن يجيء الأساتذة ويلقون دروسهم ولو من أجلي وحدي، ويومها، تعاقب على الصف الذي أجلس فيه وحدي أساتذة المواد المدرجة في برنامج ذلك اليوم كلهم، فلم يفتني أيّ درس. وتكرر هذا في أيام تظاهر أخرى. وما كان أعدل الأستاذ أحمد سامح الخالدي وأحرصه على الاستجابة لأي طلب مشروع!

في ذلك الوقت، كان أبي قد انفك عن المجلسيين إلا أنه لم يلتحق بالمعارضة النشاشيبية، بل انضمّ إلى معارضة من نوع خاص. وكان نفوذ أبي قد امتدّ في المنطقة وبلغ حيفا. وفي حيفا، كان عمي المحامي محمد اليحيى عضواً ناشطاً في قيادة الحركة الوطنية في المدينة، وكانت تربطني به علاقة قويّة، كما كانت تربطني علاقة مماثلة مع عمي يحيى اليحيى. ومن الجدير بالذكر أن عميّ هذين عملا مستشارين للقيادة العامة للجيوش العربية عام 1948. كانت قيادة حيفا قد اختصت بالشأنين السياسي والعسكري، كان عمي محمد هو المسؤول عن الشأن السياسي، أما الشأن العسكري فتولاه نمر الهوّاري رئيس حزب النجّادة. ويمكن القول إن عمي وأبي ومن اتفق معهما في الرأي من بعض وجهاء العائلات شكلوا كتلة في القيادة تنتقد بعض وجوه سلوك القيادة الحسينية وتأخذ على الحاج أمين خصوصاً ما نسب إليه من أعمال الاغتيال والتصفية.

وفي ذلك الوقت، كان الاهتمام بالمجلسيين والمعارضة، أي بالحسينيين والنشاشيبيين، وما بينهما من خصومة، طاغياً على أي شأن سياسي آخر. ومع الحضور الطاغي للطرفين في المدينة التي تتمركز فيها قيادتاهما، لم يتبدل موقفي الرافض لموالاة أي منهما. ولعلي كنت في هذا الموقف متأثراً بأبي، غير أن الموقف ذاته واءم طبيعتي.

أما النشاط المناوئ للصهيونيين، النشاط الذي أمارسه بطريقتي الخاصة، فقد واصلت في القدس ما كنت قد شرعت فيه من قبل، أنا الذي كنت قد تجاوزت بالطبع مرحلة تنظيم طرزان الطِفْليّة وفكرت بعدها مع شقيقي محمود وعبد الرحمن مفلح سعد من عين غزال -والذي أصبح فيما بعد زميلي في العسكرية- وغيرهما بإنشاء تنظيم يقاوم بيع الأراضي لليهود، وانضجت الفكرة هذه في حيفا ثم في عكا وغيرهما مع اتساع معرفتنا بالشأن العام وزيادة تحسسنا لمخاطر هيمنة الصهيونيين على الأرض. وحين انتقلت إلى القدس، لقيت تلاميذاً من المدرسة الرشيدية أكبر سنّاً مني وأوسع خبرة وهم يحملون الفكرة ذاتها ويسعون إلى تنفيذها ومنهم بالإضافة الى شقيقي محمود وصديقه عبد الرحمن مفلح اسامة النقيب الذي أصبح فيما بعد عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وغيرهم من الطلاب، وبالتعاون في ما بيننا، أسَّسنا تنظيماً سميناه "الساعد الحديدي"، وجعلنا مهمته محاربة بيع الأراضي. وكان في الساحة آنذاك تنظيم أوسع شهرة حمل هذا الاسم ذا الدلالة: الكفّ الأسود، تتقاطع مهماته مع المهمة التي نذر الساعد الحديدي نفسه لها. غير أننا تميزنا عن الكفّ الأسود الذي يعتمد العنف بتجنبنا استخدام العنف. وقد اعتمدنا نهجاً يقوم على التنوير والإقناع، التبصير بمخاطر انتقال الأراضي إلى حوزة الصهيونيين والتحذير منها. وكنّا نُعدّ الملصقات ونعلقها في الشوارع. كما كان الأعضاء يذهبون إلى القرى ويلتقون الفلاحين. وكثيراً ما لاحقت الشرطة نشطاء التنظيم كما كانت تلاحق أي ناشط مناوئ لبريطانيا أو للصهيونيين. لكنا واصلنا العمل وتوسعنا فيه، إلى أن تخرجنا وصار على جمعنا أن يتفرق فسلّمنا أوراق التنظيم إلى الكف الأسود.

وفي الكلية، درست الموسيقى الكلاسيكية، درّسنا الموسيقى جبرا إبراهيم جبرا. الذي صار من أهم أدباء فلسطين. وعلى يديّ هذا المبدع الكبير، عرفتُ الموسيقى الكلاسيكية وتاريخ كل قطعة هامة فيها وأنواعها، كما عرفت أنواع الآلات، وسير الموسيقيين العظام. وأغتنيت بهذا كله. لكننا لم نتعلم العزف.

أما الرسم فكان مدرّسه في الكلية هو فنان الزخرفة الكبير جمال بدران الذي كان يمنحنا ساعتين كل يوم جمعة والذي تعلمتُ على يديه الرسم والزخرفة بالألوان المائية.

وما اكثر ما رسمت في تلك الفترة. وقد صار لرسومي بعض الشهرة واشتهر منها كثيراً لوحة المحروسة التي تمثل السفينة المصرية "المحروسة" التي غرقت أمام شاطئ الطنطورة في بداية الأربعينات وكانت تحمل شحنة من الخروب، وقد شاهدت غرقها بنفسي. ولوحة فلاحي الأرض أو الأرض الطيّبة التي تمثّل فلاّحينا وهم يزرعون أرضنا الجميلة الخصبة.

وكان معنا في الكلية حنّا أمين أبوحنا الذي يرسم بشكل جيد، واشتهرت من لوحاته واحدة تصور التلاميذ حفاة بثياب النوم يتسللون من حجرات النوم إلى قاعة المطالعة. وفي معرضٍ شارك فيه رسامون من فلسطين كلها، ظفر حنّا بالجائزة الأولى، وظفرت أنا بالثانية والثالثة. أما أين هي هذه الرسومات الآن فقد يكون العلم بها عند الذين أخرجونا من حيفا واستولوا على منزلنا وما فيه.

في ذلك الوقت، ندبني الأستاذ جمال بدران لدراسة الفنون الجميلة في القاهرة أو لندن، لكني رفضت. كنت هاوياً للرسم وغيره من الفنون ولعل انشغالي بها أن يكون قد ساهم في رسم سلوكي في الكلية. إلا أني كنت مولعاً بدراسة العلوم والرياضيات، وكنت أرى مستقبلي في هذه الدراسة.

وفي المطالعة، كانت الكتب التي تتحدث عن الأرض وما يكتشف فيها تجتذبني، كنت مولعاً بالطبيعة وما يظهر من مكوناتها. أما الأدب الذي قرأت من كتبه الكثير فكنت أهتم فيه بأسلوب التعبير أكثر مما اهتم بوقائع السرد. وكنت أحفظ عن ظهر قلب تعابير بعينها فتنني أسلوبها وأظل أرددها، وما أزال أحفظ الكثير إلى الآن، بالعربية، والانجليزية. وقد كانت الكتب الفكرية تستهويني وما أزال مهتماً إلى الآن بقراءة الموضوعات الفلسفية، وتستهويني الكتب التي تحلل الأحداث أنا الذي كان يتابع ما يجري حوله ويحاول دائماً تحليله وتعمق فهمه.

وكنت أتابع الأحداث الأدبية. وفي ذاكرتي حدث أثّر في نفسي تأثيراً سلبياً. فقد زار توفيق الحكيم فلسطين وكنت أنا من المعجبين بأسلوب التعبير المتميّز لدى الأديب المصري المشهور دون أن أعجب بكلّ ما يكتب، وشاقني أن أتابع أنباء الزيارة. وما أشدّ ما انزعجت حين رأيت في الصحف الفلسطينية صورة الحكيم وهو يتنزه على شاطئ تل أبيب، وقرأت ما قاله عن إعجابه بالمستعمرات اليهودية المنظمة وضيقه ببؤس القرى العربية! ولئن كان في فلسطين قرى بائسة فقد كان فيها قرى الحياة فيها أيسر وأكثر تطوراً وحرّية مما في المستعمرات اليهودية. أما تعميم البؤس على الجميع فقد حلّ بالتدريج مع اشتداد السطوة البريطانية والتوسع الصهيوني المستند إليها.

كان الإحباط من زيارة توفيق الحكيم عاماً وهو الأديب الكبير المتميز. وحين جاء هو إلى كليتنا في زيارة مقررة في برنامجه، كان استقبالنا له فاتراً في ظل مشاعر وطنية متأججة. كان هذا الموقف إجماعياً، حتى من تلاميذ الصفوف قبل المترك.

أما دراستي فكانت علمية بكل معنى الكلمة. وبالرغم من أني أوليت الدراسة جلّ اهتمامي وحصلت في الامتحانات على مراتب متقدمة، فإني لم أظفر في أي مرة بالمرتبة الأولى. فهذه المرتبة احتكرها زميل اسمه إبراهيم العدوي من قرية طرعان- الناصرة.

وتقدمني آخرون غير إبراهيم. وكان طموحي أن أذهب بعد الثانوية إلى جامعة وأن أدرس الهندسة. وتمنيت لو أمكن أن أتخصص في هندسة الموانئ، تأثراً بميناء حيفا، كما أن جوّ الكلية هو الذي حفز على الرغبة في متابعة الدراسة بعدها، فالأساتذة الذين حققوا لأنفسهم في مجتمعنا مكانة عالية وأحيطوا بأتم الاحترام كانوا هم أنفسهم، بمعظمهم، تلاميذ في هذه الكلية ذات يوم ثم واصلوا الدراسة بعدها فأمكن أن يظفروا بما ظفروا به.

في غضون ذلك، لم يكفّ الجوّال العتيق فيّ عن التعرف على المحيط الذي أقام في مركزه، وما أكثر ما تجولت في القدس ومحيطها وما أكثر ما فتنني فيها، وأستذكر هنا أول زيارة لي مع مجموعة من الطلاب برئاسة استاذ اللغة العربية الدكتور محمود الغول إلى دير مار سابا وكان من بين الطلاب ذوقان هنداوي ونوري شفيق القادمين من الأردن. إن الحديث عن تأثير القدس في روحي يحتاج وحده إلى مجلد مستقل. ويكفي أن أقول إني خصصت أيام العطل الأسبوعية، السبوت والجمع، للتجول وسط الجلال الذي يتمركز في المدينة ويشعّ على محيطها. وليس غريباً أني لم انشئ في القدس علاقات زادت عن العلاقات التي لا بد منها مع تلاميذ كليتي، ذلك أن استغراقي في استثمار الوقت المتاح للتمعن في معالم القدس ومحيطها لم يبق لي وقتاً للصلات الاجتماعية. وما أعمق الأثر الذي حفرته القدس في نفسي!

وخلال سنوات دراستي في القدس، كنت أذهب في عطلة الصيف الطويلة وحدها إلى الطنطورة التي كان أهلي يصطافون فيها. وجرت العادة عندي أن أبقى في الكلية لمدة اسبوع بعد انتهاء الدراسة مع صديقين حميمين هما سميح دروزة ومحمود مرضي. في ذلك الوقت كانت عائلات حيفاوية ويافاوية قد التجأت إلى قريتنا ومنها من بقي في القرية بعد توقف الحرب مثل آل البياري والحيفاوي والعايدي. وقد تعرفت أثناء زياراتي الصيفية على أبناء بعض هذه العائلات وامتدت معرفتي بهم بعد ذلك. وفي ذاكرتي من أحداث ذلك الوقت مشاهد الطائرات الألمانية وهي تغير على حيفا، كما كنت أراها وأنا في الطنطورة، وحكاية اتصال الحاج أمين الحسيني بالألمان وإقامته في برلين، والمحاولة اليتيمة الفاشلة لإنزال سلاح من طائرة ألمانية على أرض فلسطين بدعوى إيصاله إلى ثوار مفترضين فيها. ولقد كان المزاج العام، بأغلبه، يستنكر أن يترك البلاد الزعيم الوطني الكبير الشيخ الجليل ذو المهابة في وقت حرج وصعب ليلجأ إلى المانيا. كان الكثير من الناس ضدّ ذهاب المفتي إلى برلين بالرغم من كراهيتهم للبريطانيين، لكنهم، وجدوا له المبّررات بسبب الوضع الصعب في فلسطين، وحرصاً على حياته

وكان الوضع يزداد سوءاً كلما اقتربت الحرب من نهايتها. كان مزاج الناس يتقلّب حسب طبيعة الاخبار من جبهات القتال، وكانت معنوياتهم في حركة دائمة صعوداً وهبوطاً، كانوا يخشون من مزيد من ممارسات البريطانيين القمعية ضدّهم لصالح المشروع الصهيوني إذا ما انتصروا في الحرب، لقد خَبِروا الاستعمار البريطاني، واكتووا بناره، وعرفوا نواياه حق المعرفة، فلماذا لا يقلقون على مستقبلهم ومستقبل وطنهم وقضيتهم!. ظلّ الوضع على حاله، قلق ووَجَل حتى وضع الحرب أوزارها.

وأنا أتذكر يوم انتهاء الحرب، لقد احتفل بانتهاء الحرب في الوسطين البريطاني واليهودي بابتهاج شديد، أما نحن أهل البلاد فكانت احتفالاتنا باهتة، إذ أن القلق على المصير طغى على أي بهجة.

وكنّا في الكلية، بالحرب ودونها، خاضعين لنظام صارم وقاسٍ. كنّا نصحو باكراً ونبدأ نهارنا بحمام هو إجباري في الصباح كما في المساء، ثم نتناول الفطور، الفطور البسيط في واقع الأمر، على أن ننتهي منه قبل السابعة والنصف. وكنا ندرس على فترتين بينهما استراحة نتناول خلالها الغداء. وفي السادسة مساء، كان العشاء يقدم، لتليه الفترة المخصصة لنا في قاعة المطالعة بين السابعة والتاسعة كل مساء. وكانت العقوبات التي تطال من يخالف هذا النظام قاسية. وإذا كرر أحدهم المخالفة مرتين بعد المرة الأولى فإنه يطرد من الكلية. فإن كان المطرود طالباً في السنة الثانوية الأخيرة فقد كان يمنع من التقدم لامتحانات الشهادة الثانوية، المترك، حتى لو شاء أن يتقدم لها عن غير طريق الكلية.

والدراسة نفسها كانت متعبة، فمستوى المترك الفلسطيني كان أرقى من امتحان شهادة GCE البريطانية، والمواد التي يدرسها التلميذ حتى يظفر بالمترك أصعب، خصوصاً المواد العلمية. ونظام التدريس لم يكن يوجب على الأساتذة الذين يُدرسون المواد العلمية أن يفيضوا في الشرح، فكان الأستاذ يلقي درسه وينصرف، مثل المحاضر في الجامعة. أما الموادّ الأدبية فالإفاضة في الشرح أو الاقتضاب مرهونان لطبيعة الأستاذ، فواحد يفيض وواحد يختصر، يقول واحد رأياً ويقول آخر رأياً مغايراً، وتتعقد أمورنا.

كانت فقرات برنامجنا اليومي الإجبارية تستنفد معظم وقتنا. ولم تكن الساعتان المخصصتان للمكوث في قاعة المطالعة كافيتين لمذاكرة الدروس، خصوصاً في أزمان التحضير للامتحانات.

فما أكثر ما كنا نتحايل لكي نمدّ أمد مكوثنا في هذه القاعة!

وفي خواتيم سنتي الأخيرة في الكلية، وكنّا في أواخر شتاء العام 1947، جاءت الإشارة ذات الدلالة الحازمة على اقتراب موعد الامتحانات في الاحتفال الذي يجرى في هذا الوقت من كل عام، الاحتفال الذي يسميه التلاميذ احتفال المائة يوم والذي يعني أن امتحانات المترك ستبدأ بعد مئة يوم. وكنّا نتداول نشيداً "من الشعر" الذي نسميّه الحلمنتيشي ونردده في هذا الاحتفال الذي تتنوع في العادة فقراته. وكان مطلع النشيد هو هذا:

قرّب المترك يا خي وِحْنا والله مشـــلطين

قرّب المتــرك والله ليس عَ المترك معين

ولم تكن الكلمات وحدها ساخرة، بل اللحن أيضاً، والأدوات التي نعزفه عليها، خصوصاً أداة ضبط الإيقاع التي قد تكون طنجرة أو حتى نونيّة. وكان استخدام الشعر الحلمنتيشي شائعاً بيننا لأغراض شتى لعل أهمها كان التشنيع على الأساتذة.

في هذ الأيام المئة، اشتدت حاجتنا لمزيد من الوقت، فابتكرنا نحن تلاميذ القسم العلمي وسيلة لتمديد وقت مكوثنا في قاعة المطالعة دون أن يكتشف المراقبون مخالفتنا للأنظمة، المخالفة التي كانت تعدّ في الكلية بين الكبائر. وكان لي أنا بالذات قصب السبق في هذا الابتكار. وقد ربطنا مغاليق الأبواب بأسلاك تدور على بكرات، واخترعنا نظاماً ينطفئ به الضوء آلياً وتنغلق الأبواب الأخرى إذا فتح أحدهم الباب المفضي إلى حيث نكون في القاعة، فيصير بامكاننا أن نفرّ من النوافذ دون أن يلحظ الداخل أننا كنّا في المكان.

وفي إحدى الأماسي، تفقد أستاذ الفيزياء فايز قدورة الذي من صفد القاعة، ففعل نظامنا فعله. لكن هذا الأستاذ ذا الفطنة عرف بطريقة من الطرق أني كنت في القاعة فطلبني إليه. وكان الوقت يقترب من منتصف الليل حين توجّب أن أواجه الأستاذ. وكان أن اعترفت بأني كنت موجوداً، وأقررت بأني ساهمت في اختراع النظام الذي انكشف. وها أنا ذا أتذكر تعليق أستاذ الفيزياء: "هل علمناكم العلوم كي تطبقّوها ضدنا"، لكن لم يكن ساخطاً، بل بدا في واقع الأمر متفهماً لحاجتنا إلى الوقت الإضافي حتى وإن لم يفصح عن رأيه بالكلام. وشجعني ما لمسته من الأستاذ فايز، فأشرت إلى علبة حلوى دمشقية موضوعة أمامه على المكتب، وتساءلت عما إذا كان بإمكاني أن أظفر بقطعة من هذه الحلوى الشهية، فمّد العلبة إلي وطلب أن آخذ منها ما أريد. وتبادلت معه حديثاً شيقاً جئنا فيه على ذكر صفد، وقلت إني زرتها ولي فيها أصدقاء سميتهم له فعرف من هم. وراق الجوّ بيننا أتم رواق. ثم أصرّ على أن آخذ قطع حلوى لزملائي. وكان هؤلاء في انتظاري وهم في أشدّ القلق. وحين رجعت إليهم سالماً ورائق المزاج ومحملاً بالحلوى، حلّت محلّ قلقهم الشديد الدهشة الشديدة.

وفي تلك الليلة، تأسست بيني وبين الأستاذ فايز صداقة قدر لها ان تستمر وتنمو بعد ذلك. ومما أستذكره هنا هو أن الأستاذ فايز كان يقصّ علينا قصصاً عجيبة عن الحياة الاجتماعية في لندن أثناء الحرب وعن انتشار الخرافات وهوس استحضار الأرواح فيها.

كان على طالب المترك أن يتقدم إلى امتحانات مواد أساسية مفروضة على الجميع، وهي الانجليزية، والعربية، والتاريخ العام، والرياضيات الابتدائية. كما كان على هذا الطالب أن يختار من بين قائمة طويلة من المواد التي يسمونها الإضافية عدداً بعينه ليتقدم إلى امتحاناته. وقد اخترت أنا من هذه المواد ما فاق العدد المطلوب. وكان عدد ما اخترته أكثر من عدد الفراغات المتاحة لتسجيل النتائج في الشهادة، فأرغموني إرغاماً على التخلي عن بعض ما اخترته. وقد أنهيت امتحاناتي كلها وأنا واثق من النجاح.

وبعد الفراغ من همّ الامتحانات، أمضيت في القدس اسبوعاً احتفلت خلاله مع زملاء الصف بانتهاء دراستنا الثانوية. وفي هذا الأسبوع، انطلقنا على سجيتنا ولم نقتصد في إنفاق ما كان قد بقي معنا من نقود. وما أكثر ما شاهدنا من أفلام، وما أشهى ما تناولنا في مطاعم شارع يافا! وكانت تلك هي خاتمة إقامتي في القدس. ولم أعلم وقتها أن عقوداً كثيرة ستنقضي دون أن أتمكن من العودة إليها. وإذا جاز لي أن أحكي بإيجاز عما تعنيه القدس بالنسبة لي، فإني أقول إن القدس عندي هي روح فلسطين، روح الأرض وروح الناس، وهي أيضاً العلم أو روح المعرفة.

وما خطرت القدس ببالي مرة إلا حضر الأمران: الأرض والعلم.

Pages