You are here

قراءة كتاب الإخوة الأعداء

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الإخوة الأعداء

الإخوة الأعداء

كتاب " الإخوة الأعداء " ، تأليف نسيم ضاهر ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع ، ومما جاء في مقدمة الكتاب

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
الصفحة رقم: 8

ارتاح الإسلاميون المصريون من ثقل ميراث عبد الناصر، وخالوا أن طلب ودّهم قد بان، ليُفاجأ الجميع مجدداً بالحدود المرسومة لحرب التحرير في سيناء، وبولوج مصر الساداتية عصر الانفتاح، وتجاوبها مع صديق زعيمها، هنري كسينجر، الذي أسفرت رحلاته المكوكية عن هندسة تصالحية مع إسرائيل، آلت إلى زيارة القدس من جانب الطرف المصري وخطاب شهير في الكنيست الإسرائيلي، تبعه اتفاق كامب دايفيد برعاية الرئيس الأميركي الجديد كارتر. هكذا غادرت مصر الصف والإيديولوجيا، وعقدت صلحاً منفرداً، تبرَّأَت منه دول الجامعة العربية ونقلت أمانتها إلى تونس، علَّها تعزل المتهاونين.

أضحى السادات فرعون مصر الحديث، تلاحقه لعنة القائلين بحرب الوجود والشرّ الإسرائيلي المطلق باسم الغيرة على الدين، ويعاديه جميع أهل التحدِّي والصمود على خطى الثنائي البعثي في كل من دمشق وبغداد. انتهى مفهوم دول الطوق ومفعول فكّي الكمّاشة المصرية-السورية، لا بخروج مصر من الساحة وحسب، بل أيضاً، باتفاق فصل القوات المعقود على جبهة الجولان، الذي لن يخرق البتة، ويستعاض عن التقاعس السوري بمناوشات جانبية تستهدف الجليل وإصبعه انطلاقاً من لبنان. ولم يجد اغتيال السادات المروّع من جماعة الجهاد الإسلامي في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، سوى أنه أذن بدورة عنف سوف تقود الملاحقين إلى كنف بن لادن وأرض أفغانستان، وتلجم طموحات الإخوان المسلمين في الانقضاض على السلطة، ما ساور إخوان سوريا ورماهم في مغامرة كلّفتهم مجزرة حماه. فعوض سواعد شباب التقوى، بانت أنياب الأسد وقضي الأمر شلاَّل دم تحت أنظار خالد بن الوليد.

على هذا النحو، اختصرت سوريا البعث بسوريا الأسد خلال عقد من الزمن، شهد صعود الغريم التكريتي اللدود صدّام حسين من سيادة النائب إلى سيادة الرئيس، القائد الأوحد على ضفاف دجلة، ذي القبضة الحديدية والباع الطويل. طوال ربع قرن، اختلط فيه البناء بالتنكيل والحروب الصغرى والكبرى، كتب على العراق دفع أغلى الأثمان، وسجّلت كل مرحلة في عهدة الفارس تساقط النشامى من حوله، حتى أفرغ حزب البعث من رفاق الدرب، والتحقت كواكب المغضوب عليهم تباعاً بقوافل المعارضين والمعترضين، فلم توفر آلة القمع مكاناً لهم إلاّ تحت التراب، وغالباً ما حرمتهم الشواهد، لمزيد من التشييئ. هكذا بكى العراق شيوعيين وكرداً وشيعة ومُعمَّمين، كما ناح على بعثيّين أوفياء وقوميين عرب وعدد لا يحصى من البسطاء الصابرين.

خبرت الأنظمة التي أطلقت عليها صفة التقدمية عنفاً عضوياً فاق المرتكب لدى المحافظين. وكلما تستّر انقلابي بالإصلاح الجذري، انقلب على حقوق الإنسان في أبسط تعاريفها، وتولَّى مهمة إقصاء مساويه ومنافسيه المحتملين ضمن حلقة المشاركين في "الثورة". اكتسب كفاح الجزائريين وسام الثورة الشعبية بامتياز، لكن القليل رشح عن التقاتل والتصفيات داخل جبهة التحرير الجزائرية، المجتمعة على استئصال معاوني ومهادني السلطات الفرنسية. الحال أن أمراء الوحدات ونظّار الولايات قسوا وحاكموا ميدانياً وأرعبوا المتلكئين من الالتحاق بصفوف الجبهة، وما تورّعوا عن إنزال العقاب الجماعي حين اقتضى الأمر. ولعلّ رهطاً من شهداء الثورة إنما سقط بنيران صديقة عمداً. فليس ما أوردته الرواية الرسمية بعد نيل الاستقلال بمطابق لمجريات الساحة خلال الكفاح المسلّح، عملاً بأساليب الحرب النفسية المضادة، والشك الذي أحاط بالمعتقلين والمستجوبين، خشية تسلل العملاء إلى التشكيلات المقاتلة، واستثمار الفرنسيين التعذيب لانتزاع الاعترافات وإضعاف مناعة المجاهدين بغية استخدامهم كمخبرين. إن مفاد تلك الحقبة الصمت حيال العنف المنهجي، وتدارك إيقاظ الأحقاد الدفينة في جوف المجتمع الجزائري، لكن جنوح الجماعات الجهادية نحو الصدام الدموي إثر إحباط جبهة الخلاص الإسلامية بداية التسعينات أتى بالدليل على تأصّل نزعة العنف، واتصالها بموروث وممارسات لم تكن غريبة أو لم تدن في المطلق من ذي قبل.

على الرغم من مكانة أسرة السنُوسي الدينية، ووقوفها على طريقة لها مريدون واعتبار، جرف القذافي ورفاقه الضباط حكمها وآثارها في الفاتح من سبتمبر عام 1969. انقلاب لَقَّنَ شعب ليبيا أنه ثورة، انتسب إلى الموجة الناصرية، باحثاً عن تقليعة أوديبية وجدها في الجماهيرية والكتاب الأخضر، وتحرَّرَ من كل قيد بعد وفاة عبد الناصر، فخصَّ العقيد الشاب بالولاية الشاملة على قاصر مدى الحياة. انتدب القذافي نفسه منارة للأمم، بدءاً بشعبه المدجَّن جرّاء تطهيره من أعداء الثورة المنافقين، فاستوى وحيداً على سُدّة الأمر والنهي، وباتَ لا يعرف لليبيا عنوان سواه، وحُرِّم مجرد ذكره من أوته السجون والمنافي، ومن غاب غيلة عن لوحة الأحياء ودفن حياً في الصحراء . يتعذَّر إيجاد مثيل لقائد الجماهيرية (وملك ملوك أفريقيا مُؤخّراً) عبر التاريخ والجغرافيا، ويستحيل قياس أفعاله بمكاييل العصر، حيث نجمت عن حسابات نرجسيّة جامحة تؤول إلى إصدار الحكم الخفيّ بالإعدام نزوة تضاف إلى سابقات. يزيد الأمر إيلاماً، أن غالب الأسرة الدولية طلب رضاه لقاء امتياز نفطي أو استثمار مالي، فهو صاحب ليبيا وسيِّد المكرمات، ما لم توفره موارد اليمن السعيد لقادة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية إبّان الانفصال.

وفي اليمن الجنوبي، أعلن الحزب الاشتراكي اليمني انتقاله إلى الماركسية اللينينية بأجنحته المؤتلفة القادمة من حركة القوميين العرب والمجموعات اليسارية، وهدم، في لحظة، البيت المشترك على ساكنيه، ليعود إلى قبلية ثأريّة دمّرت الوعي المكتسب، وبيَّنت أن الاشتراكية العلمية قشرة طفت على سطح البناء السياسي. اقتتل الرفاق اليمنيون بضراوة، أين منها صراع الإخوة، وعالجوا الخلاف السياسي بالمدفعية، تدكّ المؤسسات، وتساند الجموع القبلية المسلحة المنحازة غريزياً إلى هذا الفريق أو ذاك. بذلك طويت صفحة مجنونة امتزجت فيها البداوة والطليعية على الطراز السوفياتي، كان للأولى بصمات على منطق التحالفات ومسار الأحداث، وللثانية أدوات نظرية مقرونة بشبق السلطة وامتلاك السلاح الحديث.

وفي المحصلة، ركام ودماء سالت في المهاجع وعلى الطرقات، كأنما استعجال التاريخ عود على بدء، واقتباس من ستالينية داهمت بيئة اجتماعية متخلِّفة، قابلة لحسم النزاعات الفوقية بالاحتكام إلى التصفيات المتبادلة وامتشاق السلاح.

Pages