You are here

قراءة كتاب مدن وحقائب

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
مدن وحقائب

مدن وحقائب

كتاب " مدن وحقائب " ، تأليف سعدي المالح ، والذي صدر عن منشورات الضفاف للنشر والتوزيع ، ومما جاء في م

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 1

فتاة على كرة

مع أن الفكرة التي أقدم على تنفيذها بدت له، منذ أن ومضت بذهنه، تافهة ومضحكة إلى حد ما، إلاّ أنه حاول أن لا يفكر بشيء، أو كما قال لنفسه بتهكم، أن يقفل مكتب تفكيره ويمنح عقله إجازة قصيرة، ويرسل به إلى دار استراحة، هنالك حيث الماء والخضرة والطبيعة الغناء، أملاً في أن يمنحه هذا فرصة لغربلة أفكاره وتصفية ذهنه، حتى يستقر على رأي ما، ويتّخذ قراره النهائي، أو ربما تخفف عنه، هذه الإجازة، وطأة المعاناة وأرق الليالي الطويلة، أو لعله أراد بذلك التهرب من حشد هائل من الأسئلة الملحاحة التي كانت تطرق رأسه طرقاً عاصفاً.

لكنه عندما ارتقى درج فوهة الميترو المفتوحة كفم الحوت وسط بحر الناس، والتقت عيناه بالطابور الطويل الملتف حول سياح حديقة المتحف كالحبل، تصنّع الجد، واعتبر نفسه واحداً من هؤلاء الناس المتجمهرين بوقار بغية ارواء نفوسهم العطشى بمشاهدة تحف الفن التشكيلي العالمي، والواهبين لذلك بسخاء يوم عطلتهم الأسبوعية، بل وتجرأ أن يردد مع نفسه "تروم العز ثم تنام! يغوص البحر من طلب اللآلئ" ولصق نفسه بذيل الطابور ينتظر.

يتنقل الآن من أمام لوحة إلى أخرى، مقترباً، مبتعداً، ممعناً النظر في ألوانها، متأملاً مواضيعها وبريق شعور غامض يلوح له من بعيد، من هناك، من مكان غير منظور في أعماقه، يوحي له أنه يتصنّع الجدية، بل ويفتعل الهروب من ذاته، حاول أن يغمض عينيه عنه، إلاّ أن البريق هذا كان يقترب ويقترب ويوقد في داخله شرارة يعجز نفسه عن أن يجد تفسيراً لها. وفجأة أحسّ أن لساناً أزرق رفيعاً من النار يندلع من تلك الشرارة، فعمد إذ ذاك إلى إطفاء اللهيب المتراقص في داخله بابتسامة وقورة، أطلق عليها في ذات نفسه ابتسامة اليقين ورسم مثل هذه الابتسامة على شفتيه، أكثر من مرة حتى كاد هذا اليقين يدفعه إلى أن يخرج من حقيبته الجلدية المعلقة من كتفه ورقة وقلماً ويسجل ملاحظاته، مثلما كانت تفعل فتاة شقراء، ممتلئة من غير سمنة، رآها مشدوهة إلى إحدى اللوحات، غير أنه ضحك في سرّه من نفسه ولم يقتنع بمثل هذه الفكرة. ماذا يسجل؟ إنه يكاد لا يعرف شيئاً عن الفن التشكيلي، ولا أحس بحاجة إلى ذلك يوماً، لا سيما أن هذه هي المرة الثانية التي يدخل فيها متحفاً في حياته: كانت المرة الأولى قبل ثلاث سنوات عندما قادته لوبا، بل أرغمته على زيارة متحف مماثل، كان ذلك في الأيام الأولى لتعارفهما. لم تسمح له عواطفه أن يخدش قلبها الرقيق، فوافق على مضض وذهب، لكنه عاد خجلاً من نفسه لأنه أحس بوجوده هناك مثل الأطرش في الزفة، كما يقال، وضحكت لوبا منه بمرح بريء، أمّا الآن فقد جاء بقناعة أخرى لا من أجل عيني لوبا بل بملء إرادته. "أن تعيش خارج وطنك، فإنك تتأقلم، شئت أم أبيت، بحدود معينة، مع الجو الذي تعيش فيه، وإلاّ فالغربة قاتلة، وأنت مهجور، وحيد، لا صديق لك" أمّا في الوطن فالأمر يختلف تماماً، ربما، لما خطر بباله يوماً، وهو في وضع نفسي مبهم، مترجرج، أن يزور معرضاً للصور. في الأصل، لم يشاهد أي شيء يمكن أن يسميه فناً تشكيلياً بالمعنى الصحيح، لا متحف، لا معرض، حتى دروس مادة الرسم في المدرسة كانت تشغل غالبيتها بتدريس مواد أخرى تأخر معلموها في إكمال المنهج المقرر، وإذا تكرم أحد المعلمين وطلب من التلاميذ أن يرسموا شيئا ما، فيكون منظراً طبيعياً: جبال وأشجار وساقية يسبح فيها البط! ويلوّن البعض الجبال بالأزرق والأشجار بالأحمر والساقية والسماء بالأخضر أو الأصفر!

Pages