كتاب " كراهية الديموقراطية " ، تأليف جاك رانسيير ، ترجمة أحمد حسان ، والذي صدر عن دار التنوير للنشر والتوزيع
قراءة كتاب كراهية الديموقراطية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
لكن إعادةَ الاعتبارِ على هذا النحو لـ«النزعة الفردية الديموقراطيّة» ضد أوجهِ النقدِ القادمة من أمريكا، كان يعني في الحقيقة عمليةً مزدوجة. كان يعني، من جهةٍ، إهالةَ الترابِ على نقدٍ سابقٍ لمجتمع الاستهلاك، ذلك الذي كان يجري خلال عقدي 1960 1970، حين قام چان بودريّار بتجذيرٍ من نوع ماركسي للتحليلات المتشائمة أو النقديّة لـ«حقبة الازدهار»، التي قام بها فرانك جالبريث أو ديفيد ريزمان(ز). شجب بودريّار أوهامَ «شخصنةٍ» خاضعة تمامًا للمتطلبات التجارية ورأى في وعود الاستهلاكِ المساواةَ الزائفة التي تخفي «الديموقراطيةَ الغائبة والمساواةَ العصيَّةِ البلوغ»(14). كانت السوسيولوجيا الجديدة للمستهلك النرجسيّ تكبتُ، هي ذاتها، هذا التعارضَ بين المساواة المُمثَّلة وبين المساواة الغائبة. كانت تؤكّد إيجابيةَ «عمليةِ الشخصنة» تلك التي حلّلها بودريّار باعتبارها إغواءً. وبتحويلها لمستهلِكِ الأمس المُستَلَبِ إلى نرجسيٍّ يلعب بحريةٍ بأشياء وعلامات العالم التجاري، فإنها أقامت تماهيًا إيجابيًّا بين الديموقراطية وبين الاستهلاك. وفي نفس الوقت، كانت تقدِّمُ، برضا عن النفس، هذه الديموقراطية «التي أُعيدَ إليها الاعتبارُ» لنقدٍ أشدَّ جذريةً. إذ أنّ نفيَ التنافر بين النزعة الفردية الجماهيرية وبين الحكم الديموقراطي، كان يعني إظهارَ عيبٍ أعمقَ بكثير. كان يعني التأكيدَ إيجابيًّا أنّ الديموقراطيةَ لم تكن سوى سيادةِ المستهلكِ النرجسيّ الذي يُنوِّع خياراته الانتخابية مثلما يُنوِّع لذاته الحميمة. حينها ردّ الفلاسفة المتجهِّمون من الطراز القديم على السوسيولوجيين المرحين ما بعد الحداثيين. ذكَّر الفلاسفةُ بأن السياسة، كما عرّفها القدماء، هي فنُ العيش معًا والسعي إلى الصالح العامّ؛ بأنّ ذاتَ مبدأِ هذا السعي وهذا الفنّ هو التمييزُ الواضح بين مجال الشؤون العامّة وبين المملكة الأنانيّة والبائسة للحياة الخاصّة والمصالح المنزليّة. أشارت الصورةُ «السوسيولوجيّة» للديموقراطية المرحةِ ما بعد الحداثية إذن إلى دمارِ السياسة، المُستعبَدةِ من الآنَ فصاعدًا لشكلٍ من المجتمع يحكمه القانونُ الأوحد للفرديّة الاستهلاكيّة. وضدّ هذا، توجَّب أن نستعيد، مع أرسطو، وحنا أرندت، وليو شتراوس، المعنى الخالصَ لسياسةٍ متخلِّصة من اعتداءات المستهلك الديموقراطي. وفي الممارسة، وجد ذلك الفردُ المستهلِكُ هُويّتَه بكل طبيعيةٍ في شخص الأجير الذي يدافعُ بأنانيةٍ عن امتيازاته العتيقة. ولا شكّ أننا نتذكّر فيضَ الأدبيّات التي تدفّقت لحظةَ إضراباتِ ومظاهرات خريف عام 1995 لتذكير أولئك المحظوظين بالوعي بالعيش معًا وبروعةِ الحياة العامّة التي أخذوا يلطّخونها بمصالحهم الأنانيّة. لكن ما يهمُّ، أكثرَ من تلك الاستخدامات الظرفيّة، هو التماهي المحدَّدُ بصلابة بين الإنسان الديموقراطي والفردِ المستهلك. ويتضحُ النزاعُ بين السوسيولوجيين ما بعد الحداثيين وبين الفلاسفة من الطراز القديم بصورةٍ أكثرَ بساطةً من حقيقةِ أنّ الخَصمين لم يفعلا سوى أن قدّما، في ثنائيٍ محكومٍ جيّدًا بواسطة مجلة عنوانها للمفارقة هو النقاش(س)، نفس وجهَي العملة، نفس المعادلة مقروءةً في اتجاهين متعاكسين.
على هذا النحو جرى، في لحظةٍ أولى، اختزالُ الديموقراطية إلى حالةٍ مجتمعية. ويبقى أن نفهم اللحظةَ الثانية من العملية، تلك التي تجعلُ من الديموقراطيةِ المُعرَّفةِ بهذه الطريقة، ليس مجرّد حالةٍ اجتماعية تتعدّى بدون وجه حقٍ على المجال السياسي، بل كارثةً أنثروبولوجية، تدميرًا ذاتيًّا للبشرية. تلك الخطوةُ الإضافية تم اتخاذُها عن طريق لعبةٍ أخرى منسَّقةٍ بين الفلسفة وبين السوسيولوجيا، أقلَّ سلميةً في تطوُّرها لكنها تستهدفُ نفسَ النتيجة. وكان مسرحُها النزاعُ حول المدرسة. كان السياقُ الأوّلي لهذا النزاع يتعلقُ بمسألة الإخفاقِ المدرسي، أي إخفاقُ المؤسسة المدرسية في إعطاء فرصٍ متكافئةٍ للأطفال المنحدرين من الطبقات الأشد تواضعا. كان الأمرُ يتعلَّقُ إذن بمعرفة كيف يجب فهمُ المساواةِ في المدرسة أو بواسطة المدرسة. ارتكزت الأطروحةُ المسمّاةُ اجتماعيةً على أعمال بورديو وپاسرون، أي على توضيح أوجهِ عدم المساواةِ الاجتماعية التي تخفيها الأشكالُ المحايدةُ ظاهريًا لنقل المعرفةِ المدرسية. اقترحَت من ثم جعلُ المدرسة أكثر مساواتيةً بإخراجها من الحصن التي تمترسَت فيه منعزلةً عن المجتمع: بتغيير أشكالِ المجتمع المدرسي، وبتكييفِ مضامين التعليم لاحتياجات التلاميذ الأشد حرمانا من الميراث الثقافي. أمّا الأطروحةُ المسمّاة جمهوريةً فاتخذت الموقفَ النقيض تمامًا: جعلَ المدرسة أكثر قربًا من المجتمع، أي جعلها أكثرَ تجانُسًا مع عدم التكافؤ الاجتماعي. على المدرسة أن تعملَ من أجل المساواةِ بالقدر الدقيق الذي يمكّنها من أن تُكرِّس نفسها، في حماية الأسوار التي تفصلها عن المجتمع، لمَهمَّتها الخاصّة: أن توزّعَ بشكلٍ متساوٍ على الجميع، دون اعتبارٍ للأصل أو المصير الاجتماعي، الجانبَ العامّ للمعارف، مستخدمةً لهذه الغاية المساواتيةِ شكلَ العَلاقة غير المساواتيةِ بالضرورة بين من يعرفُ ومن يتعلّم. كان يتوجّبُ عليها إذن أن تُعيد التأكيدَ على هذه الوظيفة التي تجسّدت تاريخيًّا في مدرسة چول فيرّي(ش) الجمهورية.
بدا إذن أنّ السجالَ يدورُ حول أشكالِ اللامساواة وطرق المساواة. إلاّ أنّ المصطلحاتِ كانت خاطئةً تمامًا. ويشهدُ على هذا الالتباسِ أنّ الكتابَ الرئيسي لهذا الاتجاه هو عن المدرسة لچان كلود ميلنر. إذ إنّ كتابَ ميلنر كان يقولُ شيئًا مختلفًا تمامًا عمّا كان الناسُ يودّون قراءته في تلك الفترة. فلم ينشغل إلّا قليلًا جدًا بوضع ما هو عامٌّ في خدمة المساواة. لكنّه انشغل أكثر بالعَلاقة بين المعارف، والحريّات، والنُخب. واستلهمَ، أكثر من چول فيرّي، رينانَ ورؤيتَه للنخبِ العارِفةِ الضامنةِ للحريّات في بلدٍ يتهدّدهُ الاستبدادُ الكامنُ في الكاثوليكية(15). كان التعارضُ بين المذهب الجمهوري والمذهب «السوسيولوجيّ» في الحقيقة تعارضًا بين سوسيولوجيا وأخرى. إلّا أنّ مفهومَ «النخبويّة الجمهورية» يتيحُ إخفاءَ الالتباس. وتمّت استعادةُ النواةِ الصلبة للأطروحة تحت الاختلافِ البسيط بين الكلِّيّ الجمهوريّ وبين الخصوصيّات والتفاوتات الاجتماعيّة. بدا أنّ الجدالَ ينصبُّ على ما تستطيع السلطةُ العامّة وما يجبُ عليها فعلُه كي تعالجَ بطرقِها الخاصّة أوجهَ التفاوت الاجتماعية. لكن سرعان ما اتّضح أنّ المنظورَ يجري تصحيحُه، والمشهدُ يتمّ تعديلُه. فعلى هامش الإداناتِ للتعاظم المحتوم لانعدام الثقافة المرتبطِ بانفجار ثقافة السوبر ماركت، جرى تحديدُ جِذرِ الشرّ: إنه النزعةُ الفردية الديموقراطية بالتأكيد. لم يعد العدوُ الذي تواجههُ المدرسةُ الجمهورية، إذن، هو المجتمعُ غير المتكافئ الذي يجب أن تنتزعَ التلميذَ منه، بل صار التلميذَ ذاته، الذي أصبح المُمثّلَ بامتياز للإنسان الديموقراطي، الكائنَ غير الناضج، المستهلكَ الفتيّ النشوانَ بالمساواة، الذي ميثاقه حقوقُ الإنسان. وسرعان ما سيقالُ أن المدرسة تعاني من داءٍ واحد ووحيد، هو المساواةُ المتجسِّدةُ بالضبط فيما يجب أن تُعلِّمه. وما يتحقّقُ من خلال سلطةِ المُعلّم لم يعد هو الوجهُ الكلّي للمعرفة بل التفاوتِ ذاته، مأخوذًا بوصفه تبدّيًا لـ«تسامٍ»: «لم يعد ثمة مكانٌ لتسامٍ من أي نوع، فالفردُ هو من انتصبَ كقيمةٍ مطلقةٍ، وإذا كان ثمةَ شيءٌ مقدسٌ لا يزال، فإنه تقديسُ الفرد، من خلال حقوق الإنسان والديموقراطية [...] وهذا هو السبب، إذن، في دمار سلطة المُعلّم: فمن خلال هذه الصدارةِ الممنوحةِ للمساواة، لم يعد سوى عاملٍ عادي يواجه مُستخدِمين ويجد نفسَهُ مضطّرًا إلى النقاش ندًّا لندٍّ مع التلميذ، الذي ينتهي بأن يضع نفسَهُ حكَمًا لأستاذه»(16).