كتاب " دمية النار " ، تأليف بشير مفتي ، والذي صدر عن منشورات ضفاف ، نقرأ من اجواء الرواية :
You are here
قراءة كتاب دمية النار
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
التقيت ببطل هذه الرواية السيد رضا شاوش وأنا في الرابعة والعشرين من عمري. كنت حينها في عز شبابـي واندفاعي للحياة، أو ما كنت أنظر له حينها على أنه الحياة، كان ذلك في أواخر شهر سبتمبر من عام 1985، تلك الفترة التي كانت حينها واعدة رغم البؤس الاجتماعي المفرط، والذي كان يحيل أكثر الأحلام شراسة إلى رماد رميم. غير أن تلك الفترة التعيسة، رغم كل شيء، كانت تمثل بالنسبة لي بداياتي في درب الكتابة، وكنت تحت تأثير قراءات شيطانية كثيرة ومتنوعة، وفي كل الأصناف والأنواع الأدبية، أشعر أنني سأملك تلك الحقيقة الكليّة للأدب. كنت مدفوعًا بسحر جنوني إلى هذا الطريق، كان الأمر يبدو وكأنه شيء يمكن أن يتحقق في يوم من الأيام، لم أكن متعجلاً لبلوغه كما قد يتصور البعض، كنت أنظر له على أنه شيء سيحدث وكفى، يومًا ما كنت سأحقق وجودي الحقيقي ككاتب، ليس كأي كاتب عارض، ولكن ككاتب يستحق هذه التسمية بالفعل. وبالرغم من أنني لم أكن قد كتبت في تلك السنوات أي شيء يستحق الذكر، إلا إنني كنت أشعر تحت تأثير الكثير من القراءات الغزيرة والآثمة بأن هناك شخصًا آخر يسكن بداخلي، شخصًا آخر يقطن في رأسي (ربما يعود ذلك لانفصاميَّتي الغريبة!)، هو الذي يملي عليّ ما كتبته من قصص لم تكن تتجاوز الصفحتين في أحسن الأحوال، وإن صار يظهر لي كل ذلك عبثيًّا ومخيبًا الآن، إلا إنني كنت أعتبره بداياتي التي سأدخل بها الوجود الأدبـي، هذا الفردوس الغريب، الذي كنت مستعدًا من أجله على تلقي كل عقوبات الحياة. ولو عاد الزمن للوراء لمسحتها طبعًا من صفحات ماضيّ الأعمى، لا لأني نادم عليها الآن، ولم أعد أطيق حتى النظر إليها، ولكن لأنها كتبت على عجل، وبتهور شديد، وبنـزعة تقليدية ما في ذلك شك لمن قرأت لهم حينها..
عرفت رضا شاوش وقد تجاوز الثلاثين بأربع أو خمس سنوات، كان يبدو أكبر من سنه، دقيق الملامح وذا وجه يثير الحيرة والتساؤل. غير أن ما شدني إليه لم يكن شكله، ولا نظرته المرتابة من الآخرين، ولا لأنني لاحظت أنه كان يطأطئ رأسه باستمرار كلما سقطت نظرة غريب عليه، كما لو أنه يحاول إخفاء جرح عميق في صدره، بل لأنه كان يحب الكلام في الأدب، وكان ذلك هو الطُّعم الذي حرك فضولي أول الأمر، ثم شعرت بشيء قريب من الحدس أنه سيفاجئني بالتأكيد، تكهنت له بالانتحار لاحقًا، لقد كان مثل تلك الشخصيات الروائية التي تملك ماضيًا معقدًا، وتجربة مُرة في كل شيء، وهي على شفا جرف من السقوط في أرض الليل التي لا قرار لها.. تخيلته بطلاً تراجيديًّا يصلح للموضوعات التي كنت أرغب في كتابتها، قلق ميتافيزيقي حاد، وانحلال في الروح، وسوء تكوين مهلك، وجروح قديمة لا تندمل! لقد حرك فضولي دون شك، وقررت من يومها مطاردته كما يطارد محقق خاص مجرمًا ارتكب جريمة استثنائية، وفشلت الشرطة في القبض عليه. لم ييأس من كل مشاق التحقيق الطويلة؛ لأن دافعه لم يكن إثبات الجرم بالأدلة التي يفرضها أي تحقيق قانوني، لكنه الحدس الغامض كان يدفعه للتعرف عليه، من أي طينة هو؟ وكيف ارتكب جريمته تلك دون أن يقدر أحد على كشفه؟
إنني إذ أتذكر تلك السنوات فأنا أتذكرها بفرح غامر، وبسعادة حقيقية، وبألم كذلك. لقد كنت متوهمًا وليس ملهمًا، وحبيس خيالي أكثر مما كنت أسير وفق خطة واقعية واضحة المعالم، وأعتقد اليوم أنني كنت مثاليًّا جدا، ولم أكن أفهم في مسائل الخير والشر الشيء الكثير، كما لم أكن أعي حينها ما كان يحيط بـي، وأي وهم هو الأدب عندما نعقد عليه الآمال الكبيرة في إنقاذ أرواحنا من هلاك المعتاد والروتيني الممل، نصدقه فنندفع خلفه بكل حماس وحبور بادئ الأمر، ثم سرعان ما نشعر أنه فخ لا نجاة منه، وأن الوصول لتلك الغايات يبدو مستحيلاً دائمًا، فتتحول كل خطوة تخطوها مجرد قطرة في بحر ليس له بداية ولا نهاية، أو ذرة رمل في صحراء ليس لها حدود!