You are here

قراءة كتاب الاستبداد الرمزي : الدين والدولة في التأويل السيميائي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الاستبداد الرمزي : الدين والدولة في التأويل السيميائي

الاستبداد الرمزي : الدين والدولة في التأويل السيميائي

كتاب " الاستبداد الرمزي : الدين والدولة في التأويل السيميائي " ، تأليف د. شاكر شاهين ، والذي صدر عن منشورات ضفاف.

تقييمك:
0
No votes yet
المؤلف:
دار النشر: منشورات ضفاف
الصفحة رقم: 4

القسم الأول
حول السلطة الرمزية
مدخل : الإتاحة المتواصلة

دخلت يوماً الى عيادة احد الأطباء لإجراء بعض الفحوصات بعد أن قيل لي بأنه "يفهم" جيداً في مجال اختصاصه، كانت غرفة الانتظار تغص بالزبائن المرضى وبعضهم تجشم الحضور من خارج بغداد. ما أثار انتباهي أن جدران غرفة الطبيب ملئت بالشهادات التقديرية وكتب الشكر والمؤتمرات التي شارك فيها وصوره مع الطلبة والمدراء والمسئولين. عادة ما يضع الأطباء وذوي المناصب الرفيعة مثل هذه الشهادات والجداريات- خصوصا المكتوبة بلغة انكليزية- وراء ظهورهم، أي خلف الكرسي الذي يجلسون عليه بشكل يتسنى للمراجع والمريض وطالب الحاجة أن يراها بوضوح.

شاهدت في عيادة أخرى طبيباً علق في واجهة عيادته كتاب شكر وتقدير بإمضاء من رئيس الوزراء نوري المالكي موجهاً إليه مع مجموعة من الأطباء لجهودهم في علاج وإنقاذ المرضى. المراجعين كانوا ينظرون بذهول الى الكتاب المثبت بعناية أمامهم. تتمخض رؤيتهم عن انطباع بمهارة الطبيب لأن الكتاب يوجه "رسالة" بحرفيته وألمعيته وانه ملاك الرحمة والشفاء.

إن عقول الجالسين المتلقين لرسالة العلامة/الكتاب ستقوم بتهويل صورة الطبيب ومن ثم تناقل سمعته واشتهاره وأخيراً وهو الأهم سيكون قادراً على رفع قيمة الأجر، وهذا ما لاحظته. فبعد مدة رفع ذلك الطبيب أجرته وتمكن من فتح عيادة ثانية في وسط المدينة.

الى جانب الكتاب المذكور وضِعت لافتة مكتوب عليها قصيدة أهداها الشاعر عادل محسن الى الطبيب لدوره الكبير في علاجه. القصيدة والكتاب وأي جدارية يعلقها الطبيب، المدير، المسئول، رجل الدولة، توضع لاصطناع سلطة يفتقدها في أذهان الناس. إنها سلطة لا مرئية تتحدث بلغة لا مباشرة.

بعض الأطباء يضعون جداريات دينية مثل الآيات القرآنية وصور السيد المسيح أو أئمة الشيعة لجذب اهتمام المراجعين الذين سيتصورون بأن الطبيب يعرف "الله" جيداً ويجمع بين العلم والدين، وهو ما يزيد من مراجعيه المؤمنين!

في علم الشخصية يحتل اللاشعور المعرفي نسبة كبيرة من إدراكنا وفهمنا لذواتنا وعلاقتنا مع الآخرين. ومن آليات اللاشعور المعرفي ما يُعبّر عنه بتكوينات الإتاحة المتواصلة أو العمليات الآلية لإدراك العالم وتفسيره التي تفترض أن هناك طرقاً آلية يرى بها الفرد عالمه، وهي آلية بمعنى أنها طرق تنشط بسرعة وتصبح جاهزة بمعلومات ضئيلة. ولها مزايا العمليات المعرفية الآلية، فهي لا قصدية، فعالة، وليس هناك تحكم فيها، كما انه ليس هناك وعي بها وتتطلب مستوى اقل من الجهد والانتباه الموجه. تجعل هذه التكوينات المتكررة الاستخدام انتباهنا وتذكرنا متحيزين في اتجاه تأكيد مضمونها بمجرد أن يصبح احد التكوينات آلياً ومتكرر الاستخدام، فانه يجعلنا منحازين نحو إدراك وتذكر أحداث تؤكد هذا التكوين في مواجهة أحداث قد تغير فيه أو تحوله. فإذا كنا نعتقد أن رجلاً ما صالحاً، فنحن نميل الى إدراك وتذكر الأحداث بطرق تؤكد صلاحه، بالمقابل إذا كنا نعتقد أن رجلاً ما شريراً نَميل الى إدراك وتذكر الأحداث بطرق تؤكد شره. يصدق الأمر نفسه على تكوينات أخرى من تكوينات الإتاحة المتواصلة، مما يمكن أن يكون لدينا عن أنفسنا أو عن العالم من حولنا. أننا مشحوذون أو مستعدون- بمعنى ما- لإدراك أنفسنا وإدراك الآخرين بطرق معينة (لورانس برافين: علم الشخصية ج2، 69).

حسب هذا الفهم لتكوينات الإتاحة المتواصلة تقترن الشهادة والوثيقة الموقعة من جهة رفيعة المستوى مباشرة مع الجسد الجالس على الكرسي فتؤدي وظيفة رمزية تعمل على تفخيم الصورة الذهنية في عقول الداخلين إليه ويبنون له صرحاً جميلاً يليق به في مخيلتهم.

يجادل آرفنج جوفمان بأن الناس إذا رغبوا ان يكونوا مقنعين في قيامهم بأدوارهم الاجتماعية، فانه يتوجب عليهم الالتزام بالقواعد الجسمية التي تحكم كل مواجهة بعينها. ويقوم الجسد أيضاً بدوره في الحفاظ على العلاقات الاجتماعية المتعلقة بالهيمنة والخضوع عن طريق وسائل تنأى عن استعمال العنف المادي (كرس شلنج: الجسد والنظرية الاجتماعية، 119).

يدفع ذلك الى بناء صورة ذهنية image في عقل المريض لدور الطبيب وما سوف ينجزه. تعكس هذه الصورة التعريف الاجتماعي لدوره والتوقعات الثقافية حوله، كما وتتشكل تصورات المريض من خلال تجربته السابقة أو من سماعه لتجارب الآخرين (Mechanic. D: Medical sociology, 163).

هناك علاقة منتظمة أو "نسق من العلاقات" بين الفضاء الهندسي والمركز الاجتماعي، بين المركز والشخص "والشخصية"، بين الشخصية والمجتمع. فالعيادات الطبية في مركز المدينة أو الوسط المدني المزدحم تظهر فيها الرغبة المتزايدة للعلامات الإشهارية لاعتقاد الناس أنّ الأطباء المتمرسين يتواجدون في مثل هذه الأماكن. تعبّر تلك العلامات عن مركز الشخص وتعمل على شهرته وزيادة وارداته. وتعمل المحلات التجارية والمطاعم والشركات بنفس السياق الإشهاري.

Pages