الروايتان " السعادة الزوجية وبوليكوشكا " ، تأليف ليو تولستوي ، اصدار
You are here
قراءة كتاب السعادة الزوجية وبوليكوشكا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
ورمقني بنظرة طيبة متفرِّسة أثارت رضاي عن نفسي مرة أخرى، وأحدثت لي شعوراً لذيذاً بالحرج.
وفي تلك اللحظة إنما رأيت، وراء قسماته التي تبدو فرحة من النظرة الأولى، رأيت تلك النظرة التي ليس لغيرها مثلها، وهي نظرة مضيئة في البداية لكنها ما تنفك تزداد انتباهاً وحزناً.
قال:
- لا يجب عليك ولا يجوز لك أن تسأمي. عندك الموسيقى وأنت تفهمينها، وعندك الكتب والدراسة، وأمامك حياة كاملة تستطيعين أن تأخذي في الاستعداد لها حتى لا تصيبك ندامة أو حسرة من بعد. فاذا انقضت سنة وأنت على هذه الحال فات الأوان.
كان يكلمني كما يمكن أن يفعل أب أو عم، وأحسست بأنه يراقب نفسه حتى يبقى في مستواي لا يتعداه، فكان يضايقني أن أراه يعاملني معاملة من هي دونه مستوى، ولكن كان يرضيني في الوقت نفسه أن أراه يبدل مظهره في سبيلي أنا وحدي.
وقضى بقية السهرة يناقش كاتيا في شؤون المال، حتى إذا أراد أن ينصرف دنا مني وأمسك يدي، وقال:
- والآن أستودعك الله!
فسألته كاتيا:
- متى نلتقي مرة أخرى؟
فأجاب سرغي ميخائيلوفتش وكان لا يزال ممسكاً يدي:
- في الربيع. الآن أمضي الى دانيلوفكا (هي أرض أخرى من أملاكنا)، فأعرف ما أريد أن أعرفه، وأرتّب ما أستطيع أن أرتّبه، وبعد ذلك يجب عليَّ أن أسافر الى موسكو لأعمالي الشخصية. فاذا جاء الصيف كان في وسعنا أن نلتقي كثيراً.
قلت بحزن شديد:
- لماذا تتركنا مدة طويلة هذا الطول كله؟
ذلك أنني كنت قد أملت أن أراه كل يوم بعد الآن. فلما تصورت أن قلقي وسأمي سيعاودانني متى غاب، شعرت بخشية شديدة وحزن قوي على حين فجأة. ولا شك أن ما شعرت به قد تجلّى في نظرتي وظهر في صوتي، فقال لي بلهجة فاترة مسرفة في الفتور:
- عليك أن تشغلي نفسك بشيء، وأن لا تنقادي للضجر.
وأضاف يقول وهو يترك يدي ولا ينظر إليَّ:
- سوف أمتحنك في الربيع.
وكنا وصلنا الى حجرة المدخل، فأسرع يلبس معطفه، وتفرس فيًّ مرة أخرى. قلت أحدث نفسي: «عبثاً يحاول. أيظن أنه يسرني إذا هو نظر اليَّ؟ إنه رجل طيب، طيب جداً، ولكن هذا كل شيء».
ومع ذلك أرقنا في تلك الليلة مدة طويلة أنا وكاتيا، وتكلمنا، لكننا لم نتكلم عن سرغي ميخائيلوفتش، بل عن الصيف كيف نقضيه، وعن الشتاء التالي أين نكون فيه؟ وأصبح ذلك السؤال الرهيب: «علام؟» لا يخطر ببالي، وأصبح يبدو لي أمراً بسيطاً جداً وبديهياً جداً أن أحيا لأكون سعيدة، وأصبح يتراءى لي في المستقبل كثير من السعادة. لكأن منزلنا المظلم القديم في بوكروفسكويا قد امتلا حياة وضياء على حين فجأة.
جاء الربيع. انقضى حزني، وحل محله استسلام لأحلام الربيع، ونوع من حنين زاخر بآمال ورغبات، رغم أنني أصبحت لا أحيا كما كنت أحيا في أول الشتاء، لأنني أعنى الآن بصونيا، وأعزف على البيانو، وأقرأ. كان يتفق لي في أحيان كثيرة أن أعتزل في الحديقة، فأظل أطوِّف بين ممرات الأشجار لحظات طوالاً، أو أبقى جالسة على دكة. والله وحده يعلم ما الذي كنت أسترسل فيه من أفكار أو رغبات أو آمال. وكنت في بعض الأحيان، حين يكون القمر بدراً على وجه الخصوص، أبقى ليالي بكاملها جالسة الى نافذة غرفتي حتى الصباح، أو أخرج الى الحديقة بغير علم كاتيا لابسة قميص النوم وحده، فأركض على العشب المخضّل بالندى حتى أصل الى الغدير، بل لقد اتفق لي ذات مرة أن مضيت الى الحقل، ودرت حول الحديقة العامة وحيدة في الليل.
يصعب عليَّ اليوم أن أتذكر وأن أفهم الأحلام التي كانت تغذِِّي خيالي. وهبني تذكرتها فإنني لا أستطيع أن أصدِّق أن أحلامي كان لها ذلك المظهر، فهي تبدو لي غريبة أشد الغرابة، وتبدو لي خارجة عن الحياة أبعد الخروج.
وعاد سرجي ميخائيلوفتش من أسفاره في آخر شهر أيار، كما وعدني بذلك.
وزارنا أول زيارة في المساء، بينما نحن لا نتوقع وصوله البتة. كنا جالسات على الشرفة نتهيأ للشاي. الحديقة اخضرّت اخضراراً شديداً، وفي الرياض المزهرة اتخذت العنادل مقرها. وأشجار الليلك الكثيفة تبدو مرشوشة بلون أبيض ولون بنفسجي. والأزهار توشك أن تتفتح. وفي ممر أشجار البتول تبدو الأوراق شفافة عند غروب الشمس. وعلى الشرفة تسود طراوة الظل. وأنداء المساء القوية تستعد للسقوط على العشب الأخضر. ومن فناء المنزل وراء الحديقة كانت تصل إلى أسماعنا أواخر ضجات النهار، ويصل اليها وقع أقدام المواشي عائدة من مراعيها. وكان نيكون المجدوب يطوف ببرميل ماء أمام الشرفة في ممر الأشجار الصغير، فكان خيط نحيل من ماء بارد ينبع من هذه المرشة على الأرض المقلوبة حول الأشجار فيرسم دوائر سوداً. وعلى مائدة الشرفة التي فرش عليها غطاء نظيف، كان يلتمع السماور المجلو الذي يغلي ماؤه، وسط آنية فيها قشدة، وبسكويت، وفطائر. وكانت كاتيا تشطف الفناجين بيديها الربلتين. وكنت جائعة بعد الاستحمام فكنت ألتهم شريحة من خبز دهنتها بطبقة سميكة من قشدة. وقد عقدت منديلاً على شعري المبتلّ. وكنت ألبس بلوزة من نسيج رقيق، قصيرة الكمين. أبصرته كاتيا من النافذة قبل أن نبصره نحن، فهتفت تقول:
- آ... سرجي ميخائيلوفتش! كنا نتكلم عنك منذ لحظة واحدة.