الروايتان " السعادة الزوجية وبوليكوشكا " ، تأليف ليو تولستوي ، اصدار
You are here
قراءة كتاب السعادة الزوجية وبوليكوشكا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
- الحياة حلوة!
فتنهدت لا أدري لماذا!
قال:
- ماذا؟
فكررت كلامه:
- الحياة حلوة.
وصمتنا مرةً أخرى، وشعرت بارتباك من جديد. لم يبارح خيالي أنني آلمته اذ سلَّمت بأنه أكبر سناً من أن يصلح لي زوجاً، فأردت أن أواسيه وأن أعزيه ولكن لم أعرف كيف السبيل الى ذلك.
قال وهو ينهض:
- آن الاوان، استودعك الله. أمي تنتظرني على العشاء. ما كدت أراها طوال اليوم.
- ولكنني كنت أريد أن أعزف لك سونانة جديدة!
قال ببرود في ما بدا لي:
- في مرة أخرى!
- استودعك الله!
لاح لي، أكثر من أي وقت مضى، أنني آلمته، فشعرت من ذلك بأسف وحسرة. وشيعناه أنا وكاتيا الى درجات الباب، ولبثنا في الحوش لحظة ننظر الى الطريق التي أخذ يبتعد فيها. حتى إذا غاب عن أسماعنا وقع حوافر الحصان الذي كان يركبه، رجعت الى الشرفة، وعدت أسرِّح بصري في البستان. فكنت في ضباب الندى، حيث سكنت ضجات الليل، ما أزال أرى وأسمع، خلال مدة طويلة، ما كنت أحب أن أرى وأن أسمع.
عاد إلينا سرجي ميخائيلوفتش مرة ثانية فثالثة، وزال الحرج الذي خلَّفه ذلك الحديث الغريب زوالاً تاماً ثم لم يتجدد أبداً. وظل سرجي ميخائيلوفتش يزورنا مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع طوال الصيف. فبلغت من تعودي عليه وألفتي له أنني صرت أحس بضيق إذا طال غيابه عنا. وكان يعاملني معاملة رفيقة شابة غالية، ويسائلني ويحضني على صراحة كاملة، ويسدي اليَّ نصائح، ويشجعني، وقد يؤاخذني أحياناً أو يحذرني. وأدركت رغم الجهد المستمر الذي كان يبذله من أجل أن يبقى في مستواي لا يتعداه، أدركت أن في نفسه عالماً بأسره لا يرى حاجة إلى إدخالي فيه. فكان ذلك يقوِّي ما أضمر له من احترام، ويجذبني إليه مزيداً من الجذب. وعلمت من كاتيا ومن بعض الجيران أنه عدا أمه العجوز التي كانت تعيش معه وكان يحيطها بأنواع المداراة والمراعاة، وعدا أعماله الخاصة ووصايته علينا، كان يتولى إدارة النبالة في المقاطعة، فيلقى في هذا العمل مصاعب ضخمة. أما عن رأيه في المسألة، وأما عن مشاريعه في المستقبل، وأما عن اقتناعاته وآماله، فإنني لم أستطع أن أعرف شيئاً في يوم من الأيام. فما أن أذكر شيئاً عن أعماله، حتى يبرطم برطمة خاصة به، كأنما هو يقول لي: «أرجوك، ما شأنك أنت وهذا؟»، ثم إذا هو يوجه الحديث الى موضوع آخر. وقد ساءني ذلك في أول الامر، لكنني ما لبثت أن وجدت أن من الطبيعي جداً أن لا يتكلم إلا في الشؤون التي تتصل بي أنا.
أمر آخر ساءني في البداية وحلا لي بعد ذلك، هو قلة اكتراثه بمظهري الجسمي، حتى ليكاد يزدري المظهر الجسمي ازدراء. فلا بنظرة من نظراته، ولا بكلمة من كلماته، أفهمني في يوم من الأيام أنني جميلة، حتى لقد كان يبرطم أو يضحك إذا قيل لي بحضوره إنني جميلة، بل كان يحب أن يجد فيَّ عيوباً وكان يحب أن يغيظني. أما أنواع التزين وتسريح الشعر التي كانت كاتيا تحب أن تجمّلني بها في المناسبات الكبرى فكانت لا تثير فيه إلا السخرية والتهكّم والاستهزاء، فكان ذلك يحزن مربيتي الطيبة الشهمة، كما أنه حيَّرني في أول الأمر. إن كاتيا، وقد قطعت بينها وبين نفسها بأنني أعجب سرجي ميخائيلوفتش، لم تستطع أن تفهم كيف لا يحب الرجل أن يرى المرأة الغالية على نفسه في أحلى زينة. أما أنا فسرعان ما أدركت ما كان يريد. كانت تضطرم في نفسه رغبة قوية في أن يؤمن بأنني مبرّأة من كل ميل الى الغندرة. فما أن أدركت ذلك حتى لم يبق بي أثر من آثار الغندرة، لا في ثيابي ولا في تسريحات شعري ولا في سلوكي. حتى لقد أسرفت في البساطة في مرحلة من العمر لم أكن قادرة على البساطة بعد. وكنت أعلم أنه يحبني، ولكنني لم أكن قد تساءلت بعد أهو يحبني كما تُحَبّ طفلة أم كما تُحَبّ امرأة.
كنت أقدّر هذا التعلّق بي، وأشعر بأنه يرى أنني خير فتاة على وجه الأرض، فكان كل ما أتمناه هو أن تدوم هذه الخديعة. وعلى غير إرادة مني كنت أغشّه. لكنني كنت وأنا أغشّه، أتحسَّن. أصبحت أفلح في التعبير عن الجوانب الجميلة من نفسي، لا من جسمي، تعبيراً أتمَّ وأصدق، بوقار أكبر وكرامة أعظم. بدا لي أن يديَّ ووجهي وحتى عاداتي - سواء أكانت حسنةً أم سيئة – قد قدَّرها هو منذ النظرة الأولى وصار يعرفها، فلا أستطيع أن أضيف الى مظهري الخارجي أي شيء إلا ويكون خداعاً. أما نفسي فهو يجهلها. ولأنه يحبها، ولأنها كانت في ذلك الأوان تتفتح وتنمو، فقد كان في إمكاني أن أغشّه في أمرها. ولم أحرم نفسي من ذلك. ما أعظم ما صارت علاقاتنا سهلة منذ أدركت تلك الحقيقة! اختفى ذلك الحرج الذي لا داعي اليه، وانقضى ذلك الارتباك في حركاتي انقضاءً تاماً. كنت أعلم أنه يعرفني كلي سواء أرآني من أمام أم رآني من جانب، سواء أرآني جالسةً أم رآني واقفة، سواء أكان شعري مرفوعاً أم كان شعري مسبلاً متموّجاً، وكان يبدو لي أنه راض عني معجب بي، كيفما كنت. أظن أنني ما كنت لأشعر بأي فرح لو خالف عاداته مرةً فقال لي، كما كان يفعل الآخرون، إن وجهي جميل. ولكن ما أعظم ما كنت أشعر به من بهجة حين أبدي ملاحظة أو أعبر عن فكرة، فاذا هو ينظر إليَّ ويقول لي بصوت متأثر يريد أن يضفي عليه طابع الهزل والمزاح: