من المفترض أنني مت، وأن آخر أنفاسي قد صعد إلى السماء، وأنني لن أستطيع فتح عيني مرة أخرى لرؤية هذا العالم، ولا أعرف أيضاً إن كنت لا أزال أتنفس بانتظام ونبضات قلبي تتسارع في مهامها اليومية.
You are here
قراءة كتاب الحمامة بعباءتها السوداء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

الحمامة بعباءتها السوداء
الصفحة رقم: 6
إلا أن وميضاً سريعاً لمع وألقى بلفافة على وجهي، جفلت أجفاني ورف طرفي، أحسست بسقوط اللفافة على قدمي، بصعوبة بالغة باعدت بين جفني، كان الظلام دامساً إلا من ضوء شحيح يزفر به قنديل متشظ الوجه معلق على عامود إنارة وحيد، لم يكن القمر بازغاً، ربما مشطت الغيوم ضوءه وعقدت ضفائره بشرائطها الرمادية، لذا نام بسلام، فرددت وشاح أنفاسي الذي ألبسني الاطمئنان: "رحماك ربِ..." رددت ذلك بلساني كثيراً، بدأ يتماهى معي للحظات وكلما دنوت من الضوء رأيته يتناقص، "لماذا يتغير سلوكه بين إضاءة خافتة وإضاءة قوية؟" هكذا ضج السؤال في نفسي. فإذا برأسٍ كبير يقترب مني إليّ، كنتُ مشدوهة وحين ابتعدت قليلاً بدأ يصغر... ركعت لتناول اللفافة وأيقنت بحتمية معرفته بكل غواياتي، فقادتني رغبة ملحة بسؤاله عن هويته -أحياناً نكون على معرفة بالأشخاص وهويتهم ومع ذلك نصر على سؤالهم، هل هو الرغبة في مجادلة وليس محاورة الشخص الذي يبزغ في إطار رؤيتك مثل فجر طال بزوغه إثر ليل كئيب، فنحن لم نتعلم كيف نتحدث ولا كيف ندر أفكارنا لنعبر عما يجول في خلدنا؟ حتى أحلامنا نستحيل كوابيس مزعجة، أليست الأحلام هي مداركنا في منطقة اللاشعور تلك المنطقة المقصية بامتياز أو بالأحرى المهملة..!، وهذا مايجعل أفكارنا تزورنا في النوم طالما كانت اليقظة مقص رقابي مشوشر يحزز الأفكار كلما أرادت الظهور والخروج فهي مقموعة حتى من التنزه ولو لبرهة على شواطئ الشعور، الذي تفضحه شاشة العين وميكرفون اللسان، فليس ثمة من مغربل لأفكارنا الهامشية والسطحية تلك التي تتسيد المنطقة بكل حرية ودعة وكأنها منذ الأزل احتلت المكان وطفقت تؤسسه بكل ما أوتيت من قوة. وحين أصر على استخدام لفظة المجادلة لأنها هي اللفظة بكامل هيئتها التي نستخدمها في حديثنا العابر، وحين يستبد بنا الأمر نقحم اللفظة الأكثر فوضوية (الخصومة)، وهذا هو الأكثر إبهاراً؛ لهذا الذي يقف الآن وعيناه مسمّرتان على وجهي وكأنني مرآة ينظر إليها- عدت من تجلياتي، وحديث نفسي المتهاوي إلى ذلك الصوت بنظرته الطويلة حتى القدمين، وشعره الذي يتسلل من بين أصابعه، أتذكره الآن بينما جسدي بات خارج القبر بين يدي النباش، وأنا روح هائمة تتنزه بين المنازل، وتسرد لروح مثلها حكايتها
ليلة البارحة طلب مني قريني أن أفتح اللفافة الورقية.
والليلة أصابع النباش تفتح كفني... وما إن فتحتها -ليلة البارحة- حتى شعرت بكآبة تغرس مخالبها في صدري، والليلة بت جسداً بارداً بعد موتي، ولا أنفاس للموتى خارج القبور...
حاولت أن أعتذر –ليلة البارحة- فماتت الحروف على يبوسة لساني، كنتُ أحدق في عينيه الجاحظتين، ثمة أشياء مكتوبة في دفتيها، ولأنني لم أغص في بحيرتيهما، غرقت وما زلت أمشي بقدمي الحافيتين على سطحهما اللزج، البارد...
مددت اللفافة نحو عيني -ليلة البارحة-.
الليلة بدأت أصابعه تنغرس في بطني. قلت لنفسي ليلة البارحة: هل انتظرت قدومه كي أعبر له عن كلماتي الجوفاء، أم كان يتأملني على مهل حتى انقضاء الوقت الممنوح للتنفس؟
الليلة أخرج معدتي وأمعائي وكل ما يوجد في أحشائي، ووقف يدقق بها...
ليلة البارحة قادني -القرين- نحو الضوء الخفيض، الليلة رفع –النباش- أحشائي صوب مرآة القمر، وتطلع فيها بنهم جائع...
ليلة البارحة أومأ -القرين- بفض اللفافة، كانت رزمة من ورق فقد بياضه مثل انقضاء سنين لاهثة في صقيع الهواجس.
الليلة أزاح النباش كامل الكفن وبدأ لعاب كثيف لزج يسيل من بين أسنانه الطويلة...
ليلة البارحة رفعت بصري وتناهى إلي نباح كلب كان يحاور الظلمة، لكنه لا يقدر على المضي نحوي فالأماكن الطاهرة تعاف القادم الدنس. تأملته وتأملت عمري، الخمس عشرات التي مضت بينما كانت رائحة الليمون غير الطازج تنبعث من صفرة السنين...
فجأة توقف لعاب النباش الليلة، فمسح فمه بيده وأعاد أحشائي...
قلت لقريني ليلة البارحة: أول الكلمات "آه.. وماذا بعد ........؟
وآخرها لا أتذكر، أو ربما قد تناسيت في زحمة الأيام وركض الدقائق وحفيف أقدامي على تضاريس خاملة.
امتدت يد النباش نحو صدري الليلة، وبدأ متأنياً يشق به شقاً...