إذا كانت الجغرافية الوعاء الذي يحتوي العلوم كافة, باعتبار أن غايتها الإنسان ومنطلقها الإنسان, فإن هذا لا يعني أن الجغرافي هو العالم بالعلوم كافة, وإنما علمه فيها بالقدر الذي لتلك العلوم من تدخل في الوسط الذي يعيش فيه الإنسان متأثراً ومؤثراً به.
قراءة كتاب البحث الجغرافـي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

البحث الجغرافـي
الصفحة رقم: 6
2 ـ 2 ـ الاتجاه الشمولي:
إن الشمولية في البحث والدراسة ليست مرادفة للتركيبية والتجميعية. فالاتجاه الشمولي في البحث الجغرافي ليس اتجاهاً غايته تركيب ما حلل وفتت وجُزِّئ, وليس هو اتجاهاً إقليمياً جغرافياً. بمعنى أن الجغرافية الإقليمية ليست شمولية بالمعنى العلمي للشمولية, وإنما هي دراسة تركيبية لوحدة مكانية, من عناصر بنائها المكونة لها. ولكن الشمولية فيها تتأتى من النظرة العامة التكاملية للوسط بعناصره كافة, والتي تكشف عن خصائصه وإمكانياته, التي لا تتحقق إلا بالكل وليس بالجزء.
وفي المناخ, هناك اتجاهاً يعرف بعلم المناخ الشمولي أو السينوبي (Synopti.c) والذي غايته دراسة الحالة الجوية العامة بمركباتها المختلفة فوق منطقة ما, على ضوء علاقة ذلك بنمط الحركة الجوية السائدة, وهو الاتجاه الذي بشموليته للمظهر المناخي يقود إلى استقراء الحالة الجوية المقبلة. وهناك فرع آخر من فروع المناخ يمكن أن نسميه علم المناخ التحليلي؛ الذي يدرس عناصر المناخ منفصلة لإعطاء صورة عن خصائص كل عنصر في المكان المدروس. وهناك علم المناخ الإقليمي (Regional Climatology) وهو دراسة تركيبية لعناصر المناخ التحليلي, الذي غايته الربط ما بين الظواهر المفردة, ومعرفة آلية تأثيرها في الوسط بما يتولد عن ذلك من أنماط مناخية مختلفة.
إن الجغرافية هي علم شمولي وتركيبي في آن واحد, وما التحليل إلا للتركيب, وما الشمولية إلا لإظهار المفارقات الأولية التي تقود إلى التحليل السليم, والنتائج النهائية التي تمكن من الاستنباط العلمي. فالجغرافية علم مقارن يستخلص النتائج من خلال دراسة تركيبية شاملة متماسكة(1). ولا يمكن اعتبار العمل جغرافياً إلا إذا تضمن في النهاية جزءاً هاماً تتجمع فيه العناصر التحليلية بنظرة شمولية تُكَون البعد أو الرؤية الجغرافية.
إن الجغرافي هو ذاك العالم بالجزء والمحيط بالكل, وهو الذي يستطيع بصبر وأناة أن يجمع الخيوط المبعثرة ليجعل منها نسيجاً جميلاً ومحبوكاً بشكل متين. والذي بنظرة شاملة له يتحقق من مواطن القوة والضعف, ومواطن الإثارة والجمال. فالطريقة الجغرافية في المعالجة تتميز بنظرتها إلى الأشياء مجتمعة في إطارها المكاني وعلاقاتها المكانية.
إن ما تتميز به الجغرافية نظرتها للأشياء مجتمعة في علاقاتها المكانية, بالإضافة إلى كونها همزة وصل بين الظواهر الطبيعية والظواهر البشرية. إلا أن الخطر على الجغرافية يكمن في تقسيماتها المتعددة, والتي حاول بعض الجغرافيين أن يوجهوها توجيهات خاطئة فيها روح الانفصالية من جهة, وحب الانضمام إلى الفرع العلمي البحت القريب من جهة أخرى, إلا أن هذا وذاك فيهما ضياع للجغرافي الذي لم يجد نفسه ولن يجدها إلا ضمن وحدة الجغرافية وتلاحمها مع بعضها. وإحساس بعض الجغرافيين بالنقص أمام غيرهم من العلوم الأخرى, ليس مرده إلى الجغرافية, التي هي سيدة العلوم, وتاجها الرئيسي, وإنما يعزى النقص في داخلهم إلى عدم فهمهم لطبيعة علمهم, ومحتوى مادتهم,
ومنهجهم, والأهم من ذلك أنهم يسيرون دون هدف.
غير أن تقسيم العمل بين الجغرافيين ضروري لأنه يمكن الجغرافي من معالجة موضوع واحد بكل إمكانياته حسب ميوله واختصاصه. إلا أنه يجب أن يبحث عن التكامل بين البحوث الجغرافية.