كتاب " ثرثرة فوق الذكريات " ، تأليف د. عبد الجبار عبد الوهاب الجبوري ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
أراني اليوم قد طويت الشباب، بعد أن أتعبتني الخطى، وجاوزت الشيخوخة في طريقي إلى ما بعدها. إني أراجع سيرة حياتي كلها، فإذا بي قضيتها بين الطفولة الهادئة والصبا الرائع من الحياة البريئة إلى الشباب الزاخر بالحركة الأدبية والفنية والسياسية والوظيفية. فإذا بكل هذه المراحل تتحول إلى (ذكريات) ثم توثق في مذكرات تؤرخ جزءاً من حياة إنسان بكل ما فيها، من مشاهد وأحداث ووقائع... وهذه المذكرات التي تقع بين يدي القارئ لا تحدها حدود بل هي مطلقة ترتبط بالحياة والموت، وبالسياسة والاقتصاد والسلم والحرب، والكراهية والحب، وبالقوانين الوضعية والسماوية، وبالدين والدولة والعولمة والعلمانية... كل هذه ترتبط بالزمان والمكان والإنسان، فعندما تمر بهذا الزقاق تتذكر ذلك الوجه الجميل الذي يطل عليك من الشباك الخشبي بابتسامة هادئة ساحرة تحمل رائحة يفوح منها عطر الصباح، وعندما تمر بزقاق آخر تسمع أصداء الوطن والأمة والعروبة والحرية تتردد بين جدران ذلك البيت المتواضع الذي تجتمع فيه نخبة من الشباب الوطني المؤمن بالوطن والأمة وهم ينظرون إلى الصور الوطنية التي علقت على جدرانه. وعندما تجلس على (أريكة) من سعف النخيل في مقهى معزول يرتاده عدد من الشباب المثقف ووجهاء المدينة تتذكر ذلك المشهد الشعبي للمدينة التي ولدتُ فيها المتمثل بالمؤذن الطيب الشيخ (رضا) وولده الإسكافي (صادق)، وبذلك الرجل الكبير البصير السقا (بهلول) وولده حسن الذي أتعبهما ثقل الماء من النهر إلى بيوت المواطنين، وكاظم (ابن ناشيه) ومحمود بن (غدا الشر) والحاج حسين وهو يقلي كبته، والزاير (نعيمه) وهو يبيع ما لديه من لبن، والسيد (محمد) الذي يحرك ذراعيه المفتولتين في المعبر اليدوي و(گاطع) الذي يقوم بحراسة حديقة المدينة، والراقصة (بُته) وهي تتلوى أمام رئيس فريقها (عيسى بن حويلة)، و(سلطين) الذي يرمي الناس بالحجر، و(غريدل) ذات الشعر المنفوش وهي تطوف بأزقة المدينة، و(ديدو) الذي يمشي بخطوات واسعة يقبل (العانة) ويرفض (الدرهم) و(فهيمة) بائعة التمر والخضروات، و(غنمة) بائعة الأعشاب التي تجمعها وهي تجمع الحطب... الخ.
هذه المفردات الشعبية أثارت في نفسي، وأنا أعيش هموم (الألفية الثالثة) حوافز قوية ومشاعر دافعة للكتابة بنمط جديد يختلف عن نمط الوعاظ والمرشدين. فمن حيث الشكل يغلب عليه السرد الصوري لحكايات الزمن السالف المتعب عبر أحداث مختلفة من حيث الزمان والمكان والإنسان، ومن حيث المضمون يغلب الطابع الواقعي لكل حدث أو مشهد، وبين الشكل والمضمون توثق حكايات الزمن في مواقف إيجابية أو سلبية تعكس آثارها على الواقع الذي يعيشه الإنسان بشكل أفكار ومبادئ وأهداف يؤمن بها هذا الشخص ويرفضها ذلك الشخص الآخر. وبين القبول أو الرفض تولد الأمثال والحكم التي ترضي (زيد) من القوم وتغضب (عمرو)، فرضا الناس - كما يقول الوعاظ - غاية لا تدرك... فاختلاف المآرب والمشارب كاختلاف اللحى والشوارب... فلكل لحية محص ولكل شارب مقص.
* * *
هذه المذكرات تكتب بأسلوب جديد، بعضها يستند إلى نظريات مألوفة، وبعضها يعتمد على أفكار ومبادئ غير مألوفة، وهذا المألوف وغير المألوف نجده في نظرية هذا الحزب، أو أفكار تلك الحركة، أو مبادئ ذلك التيار أو الكتلة أو الجمعية. فقد تمثل هذه النظرية طموح أمة كاملة، وقد تمثل هذه الأفكار والمبادئ آمال جيل أو نصف جيل، لأن هذه النظرية أو تلك المبادئ والأفكار لم تكن ملزمة أو مطلقة قادمة من وراء الغيب، وإنما هي بشرية وضعها أفراد من شمال وجنوب الكرة الأرضية، تمثل الأسود والأبيض والطويل والقصير، العربي والأعجمي، البعيد من قطب الكرة الأرضية والقريب من خط الاستواء. هذه النظريات والأفكار والمبادئ لم تكن من الناسخ والمنسوخ المتشدد وإنما هي (وسطية) كوسطية الأمة العربية التي نسيت يمينها من شمالها وتحولت من وسطيتها إلى أمة مزيج من نسيم البر والبحر وعواصف الشمال وبراكين الجنوب، مزيج كالطيف العراقي الذي يتحدث به (المتمنطقون) بعد الاحتلال الأنكلو - أميركي للعراق الذي يذكرنا باحتلال الوطن العربي ومعاهدات التجزئة اعتباراً من غزو نابليون لمصر عام 1798 واحتلال فرنسا للجزائر عام 1831 ولتونس عام 1881 والاحتلال البريطاني لمصر عام 1882 والسودان عام 1898 والاحتلال الإيطالي للمغرب عام 1910 وليبيا عام 1911 ثم الاحتلال البريطاني للعراق عام 1914 واتفاقية سان ريمو وسايكس بيكو عام 1916 واحتلال فلسطين عام 1917 ثم الاحتلال الفرنسي لسوريا عام 1918 إلى احتلال العراق عام 2003 ثم مشروع الكونغرس الأميركي لتقسيم العراق عام 2007.
مشاركات المستخدمين