كتاب " حرمتان ومحرم " ، تأليف صبحي فحماوي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع .
ومما جاء في مقدمة الكتاب :
قد يبدو غريبا القول إن التفاصيل أو الأحداث التفصيلية التي يقدمها الكاتب الأردني صبحي فحماوي في نسج روايته "حرمتان ومحرم" تكاد في معظم الأحيان تشكل أعمالاً قصصية ناجحة في حد ذاتها فتسرد وتحرك دون أن يقلل هذا من الرواية ككل.
يكتب فحماوي بأسلوب مميز من حيث الظرف وبطريقة قد يصح في وصفها اللجوء إلى أسلوب الأديب الظريف الراحل سعيد تقي الدين فنقول إنها "قهبكة" أي القهقهة ببكاء.
صبحي فحماوي يبكينا إضحاكاً في وصف شقاء الشعب الفلسطيني المعذب، ويضحكنا من مآسينا "العربية" الصغيرة والكبيرة، فيجعلنا نكتشف أحياناً أن بعض أُمورنا الصغيرة مفجعة كالكبيرة، أو إنها من أسباب هذه الفواجع الكبيرة.
يكتب فحماوي بشكل سيال يحمل الى القارىء سخرية تنصبّ على كثير من أمور الحياة اليومية، فيأتي ما يقوله مزيجا من الواقع اليومي والألم والخيبات، ومن السياسي والديني والوطني فتمتزج فيه المصطلحات السياسية والفكرية والاجتماعية والأدبية، وتتتالى أو تتجاور أبيات شعر من الجاهلية وأخرى لشعراء معاصرين. وقد "يتلاعب" الكاتب بظرف وسخرية بكثير من الأفكار والمقولات. وكتابته تتمتع دائماً بجاذبية أكيدة تشد القارىء، فتبقيه بين حالين مؤلمين من الضحك والبكاء.
تبدأ الرواية بفصل يحمل عنواناً "حربياً" ليس ببعيد عن الأذهان هو "النجم الساطع". عالم الرواية الأول والأساسي هذا هو مخيم فلسطيني لمشردين فلسطينيين يقع في الأرض المحتلة أي في فلسطين.إنه هنا لا يتحدث عن المصطلح المعروف في عالم مدننا الحديثة أي "الهجرة الداخلية" بل عن تهجير إلى الداخل، فكأن التهجير إلى الخارج لم يعد يكفي.
يصف الحياة في هذا العالم الصغير بواقعية وبرموز ومجازات فيقول بسخرية مؤلمة هي مزيج من المناقضات أحياناً مما كان -مثلاً- أحلاماً تحولت إلى كوابيس، ومن مصطلحات عالميْ السياسة والأخبار والتاريخ المعاصر. "في معسكر الحصار يتوسط حي "سلام الشجعان" سوق شعبي تقليدي... وفي الزاوية البعيدة تقبع مَحْدَدة "العودة" التي تلفت الانتباه اليها بأصوات طرقاتها والرائحة الخانقة المنبعثة من أشعة لحام الأكسيجين والشرر المتطاير من جسد حديدي يتم تقطيعه من الوريد إلى الوريد...
"من هنا منجرة أبو ريالة وبقالة "غظب" ومستودع البطل لمواد الحديد من هناك مستودع الفار للبلاط ومحل ألبان الثور ومحلات المهلبي للإسمنت ومغسلة السلطة للسيارات وإلى جوارها محل بناشر العذراء، وميكانيكي الضبع، ومحلات العصفورية لمواد البناء.. ومطعم " إذا خلص الفول أنا مش مسؤول!"
والرواية تصف البؤس في المخيم بواقعية فيها كثير من التصوير فيقول: "والشارع شبه ترابي تنبعث رماله من كل جروحه ويتمدد مثقلاً بأوساخه كعمود فقري لموقع متهرِّىء تملأ حفره سوائل مجارٍ وأوراق بلاستيك وعبوات شرائح البطاطا الاصطناعية... تمر سيارة مسرعة بعجلاتها التي تطبطب فوق حفر الطريق فتطرطش المارة بالمياه العادمة والمعدومة... وأشياء كثيرة تتطاير بعفوية هنا وهناك لتخلق جواً من الحركة وتشغل بال سكان المكان عن توترات الأحداث المخيفة في المنطقة." والأحداث يعرفها الجميع فهي موت دائم وجروح وتهديم وإفقار وإذلال.
وسط ذلك تنمو قصص حب كثيراً ما حال البؤس والموت دون أن تكلل بالزواج. يصف السارد مرور الصبيّة تغريد بمزيج من المصطلحات منها العلمي ومنها الأدبي ومنها اليومي. فمرورها كمرور الثريا أو المذنَّب هالي. ويستشهد جهاد الأسمر الذي يحبها بشعر نزار قباني إذ يقول: "طفلة الأمس التي كانت على بابك تلعب/ والتي كانت على حضنك تغفو حين تتعب/ أصبحت قطعة جوهر لا تُقَدّر/ فتصور."
صراع بطولة وموت يدور في معسكر الحصار. حجارة تواجه الدبابات والأسلحة الإسرائيلية. "في معسكر الحصار المحتل كما في سائر بقاع الإقليم الفلسطيني المكتظ صار المارّون ينطفئون مثل الشموع على الطرقات، وداخل البوابات. وفي صف المدرسة تقصف زهرة برية فتاة بعمر الزهور..."
بعد تخرُّج الفتاتين تغريد وماجدة، واجهتا انعدام فرص العمل والفقر الآخذ بخناق عائلتيهما، والذي يحول دون زواج كل منهما بخطيبها. تقرران أن تسافرا للعمل معلمتين في مدرسة في "ولاية الرمال" العربية. ولأنهما لا تستطيعان السفر وحدهما دون أن تكونا برفقة "مَحرم" موثوق به، يحميهما، فقد استقر الرأي على أن يرافقهما صديق العائلتين الطيب "أبو مهيوب" الخمسيني، والذي زوّجَ بناته، واستشهد ابنه، وتوفيت زوجته، ولم يعد له أحد، فعاش وحيداً. ولقاء أجر خصصه الأهل له، جرت كتابة عقدي زواج صوريين تربطان الرجل الطيب بالفتاتين هو أشبه بوالد لكل منهما.
قبل أن يصف الكاتب الحياة في مدينة الواحة يتحدث عن الطائرة التي أقلتهم، وعن ركابها العائدين إلى الواحة. يقول: "بعد وصول الطائرة إلى مطار مدينة الواحة في ولاية الرمال، وقف الرجال والنساء نابتين في مقاعدهم وتكاثفوا في ممر الطائرة، حيث ملابس النساء المزركشة، ووجوههن المزينة، وصدورهن الناهدة، وأردافهن المثيرة ببنطالاتهن القطنية المفصلة على آخر طراز، وأثوابهن الملونة وتنانيرهن القصيرة..."كل هذه النعم الملونة تحوصلت فجأة، وتشدرت فوقها براقع سوداء، فحولتها إلى اللون الأسود، واختفت معالمها وصارت على شكل بقج سوداء..أو خيم سوداء لا يُعرف ما تحتها.. غمامات أو براقع أو مهاجع لأجساد لا يُعرف ما بداخلها..."
ووصف التقنية العالية المدهشة في المطار ليصل بعد ذلك إلى نقيضها. جرى الفصل بين النساء والرجال. وتحدث عن رجل دين يبدو أنه مُعيّن للحفاظ على أن تكون النساء محجوبات تماماً. كان يحمل عصاً يهدد بها كل من يظهر لها وجه أو ذراع أو ساق. حاول الشيخ نهر امرأة أجنبية غربية، لكنها لم تأبه له، فاضطر بعد أن نهره زوجها إلى الانكفاء والعودة إلى الاهتمام بالنساء "العربيات".
ويصف السارد رفض الأجنبية وزوجها أوامر الشيخ "الشيبة" والقول له إن هذا لا يعنيه " (ذس إز نط يور بزنس.). اجلس والتزم نفسك". أضاف "يا أخي هؤلاء الغربيون لا يفهمون غير البزنس. حتى شؤون المرأة عندهم بزنس. ولكن هذا الرجل الشيبة التقي النقي الطاهر العلم... لم يفهم شيئا من رطانة الأجنبي. ويبدو أن مع هذا الأشقر قوة "فيتو" تجعله يقرر تفويت الفرصة على هذا الملتحي!"ويصف الشبق الجنسي المسيطر على كثير من رجال مدينة الواحة وطرق تعاملهم مع النساء.
الذي جرى في النهاية بعد سنوات من العمل في مدينة الواحة، والشعور باليأس عند العودة إلى الوطن في الإجازات، وقد امتلأ بالموت وغياب الأحبة -وفي خطوة رمزية إلى حد ما- فاتحت الفتاتان "المحرم" الخمسيني أبا مهيوب، وطلبتا منه أن يتزوجهما. جرى ذلك وعاش الجميع بهدوء في ولاية الرمال ورزقوا أولاداً كي تستمر الحياة التي بدا أنها يصعب أن تستمر بشكل أكثر "معقولية" وأقرب إلى منطق الحياة الطبيعي. وأسكتت الفتاتان غضب أهلهما باعتماد مبدأ "أطعم الفم تستحِ العين."
في الختام يعود صبحي فحماوي فيجعل أبطاله الذين تحولوا أمامه إلى أشخاص حقيقيين يثورون عليه، لأنه تحكَّم بأقدارهم، وخطط لهم حياتهم، ولم يكونوا بالضرورة ليقبلوا مصائرهم كما أرادها. ويعود هو فيسعى إلى تبرير ما قام به، وكأنه يتساءل عن قدرة الإنسان في أحوال مثل التي وصفها على أن يختار ماهو أفضل له. لكن الحياة يجب أن تستمر ولو في "قهبكة".
مشاركات المستخدمين