أنت هنا
سر الوجود يكمن في تمكننا من القراءة
من الصعب الحديث عن القراءة أو العلاقة بالكتاب من دون التطرّق إلى محفّزات التوجه نحو هذه الممارسة القديمة التي سبر تاريخها ألبرتو مانغويل في كتابه «تاريخ القراءة»، ذلك أن تاريخ القراءة هو جزء من تاريخ الدهشة، والدهشة ومضة ليس لها تاريخ أو بدء أو تدشين. من هنا يكون فعل القراءة هو ضرب من اكتشاف الدروب على الطريقة «الهيدغرية» حين تغدو الطرق نحو الوجود مثل مفازات الغابة وأعشابها والجذوع الباسقات.
وحين يقطع سر الإنسان عن أمه يجد نفسه واقفا أمام الوجود لوحده، يستقبله بصرخة ودمعة، ثم يتحمل مسؤولياته، يكون حينها طائره في عنقه. يبحث حينها عن إجابات تكاد تكون مستحيلة الإغلاق، هذه اللحظة هي شرارة إن تلاشت بقي الإنسان ضمن «الوجود الزائف» كما يعبر أيضا هيدغر، يأكل ويشرب ويكون «مطقّما» مثله مثل غيره، يتعلم ويسمع ويعتقد ولا يسأل.
العلاقة مع الكتب تكون مثمرة حين تكون العلاقة ثمرة قلق تشعله دهشة الوجود.
للبيئة تأثيرها في تسوية العلاقة بين الإنسان والكتاب، أذكر هنا مكتبة جدي الضخمة، وكذلك مكتبته التي كان يبيع بها واسمها «مكتبة القصيم العلمية» والتي أسست لجيلٍ من القراء والباحثين، وهي من المكتبات القليلة حينها، والسلوك الذي كان مطروحا للقراءة أن يتفرّغ الإنسان حتى يقرأ، لا أن يقرأ لأنه فارغ، هذه المعادلة تطرح فرقا بين جموع القارئين، بالإضافة إلى التعلّم، والبحث عن أساليب جديدة للقراءة والممارسة، فالقراءة سبر واكتشاف وتحقيق وغوص في دهاليز العالم، وهي رحلة بحسب جيل دلوز الذي لم يكن كثير سفرٍ، لكنه اختار السفر عبر الكتب والعوالم التي تطرحها وتحثّ عليها.
من الصعب الحديث عن عوائق أمام القراءة سوى العائق الذاتي، وعائق الاكتشاف الشخصي، ذلك أن المكتبات العامة في الرياض مثلا على مستوى من الجودة والتنوع، أذكر منها مكتبة الأمير سلمان بجامعة الملك سعود، فهي مليئة بالكتب الفلسفية الرصينة سواء على مستوى المتون أو بما يتعلق بالشروحات، وأذكر أنني وجدت بعض كتب جيل دلوز التي ترجمت ونفدت ومنها حواراتٍ معه، وكذلك كتب نيتشه وكتب هيدغر، والكثير من مؤلفات عبد الرحمن بدوي. كذلك الأمر بمكتبة الملك عبد العزيز وجدت فيها مراجع قيمة وأذكر أنني عثرت وصوّرت كتاب «القول الفلسفي للحداثة» ليورغن هابرماس الذي ترجمتْه فاطمة الجيوشي وهو كتاب طبع ونفد. وقل مثل ذلك عن خاصيّة البحث في مركز الملك فيصل للدراسات والبحوث الذي تنضم إلى الباحثين به عبر اشتراك رمزي.
من الصعب البدء بالقراءة ثم التخصص مباشرة، التخصص يكتشف من خلال سنواتٍ من القراءة الاعتباطية، بحيث تغرق في أكثر من مجال وتقرأ بأكثر من كتاب، يأتي التخصص تلقائيا من خلال المجال الذي يمتع ويغني وتجد أن هذا الفن هو الذي يستهويك وتجد نفسك ضمن مفرداته وأدواته ومفاهيمه وأساليبه. القراءة رحلة دائمة لا نهاية لها، ولا حدود لها، فهي فضولية أبدية، أن تقبض على الكتاب وأنت تبحث في أسراره ودهاليزه، تجسّ الفهرس، وتستمتع بالنص، فالنص له صيغة الجسد كما يقول رولان بارت، له سحره وألقه وجنونه الخاص، النص الجميل سرّه في غموضه، تلك هي القراءة بوصفها ممارسة وجودية أبدية.