أنت هنا
غليون العقيد الرمز المتجسد تجريدياً
قد لا يكون اسم محمد عبدالملك ذا شهرة واسعة لكن قصص مجموعته الصادرة أخيراً تتميز على تعدد المؤثرات فيها بسمات شخصية نفاذة في خوضها أعماق النفس وخفاياها.
تتسم قصص الكاتب البحريني بخاصة جذابة تتمثل في المراوحة المدروسة بين مشاهد الواقع التي تألفها يعرضها موحية في دلالاتها وبين الارتفاع بهذه المشاهد لتتحول إلى شبه رموز لا يلبث ان يبني عليها عالماً هو مزيج متماسك منسجم من الواقعي والتجريدي والخيال الجامح.
إلاّ ان كل ذلك لا يبدو مجانياً.. هناك دائماً علاقة بما يمكن ان نسميه سراديب النفس البشرية ودهاليزها وهناك أيضاً خيط أو أكثر يتيح للقارئ ربط أجواء تلك السراديب وظلماتها بعالم الواقع الذي قد يحمل سمات محلية أحياناً لكنه ينسحب على الإنسان عامة.
مجموعة عبدالملك التي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر اشتملت على 11قصة حملت عنواناً هو "غليون العقيد". في قصص المجموعة يسري خيط حياة يشعر به القارئ إذ يطل عليه في وجوه مختلفة تتحدث دائماً عن الناس المسكونين بهواجس ومشاغل متعددة الألوان لكنها دائماً ذات طابع مصيري وفكري.
القصة الأولى وهي "الستارة المغلقة" تبدو في البداية واقعية إلى حد بعيد ويفهم تماماً ما تثيره في نفس من أتيح له منا فعلاً لا تصوراً ان يحل في فندق معين عالمي المستوى في بلد عربي محدد وأطل من أحد نوافذه ليجد مدينة أموات أمامه.. الفندق يشرف على مدافن تمتد كأنها بلدة كبيرة.
في قصة (قاعة مظلمة) رمزية تتناول الحالات البشرية كافة من خلال انقطاع النور في إحدى الحفلات الكبيرة وتعذر الخروج. يمثل الظلام هنا عودة بل ردة إلى ظلمة مغاور النفس البشرية في حالاتها المختلفة التي أطلق الظلام لها العنان بعد ان كان النور مسرح عمل العقل الواعي واليد التي تكبح جماح ظلمة النفس.
في أجواء قصة "فوبيا" أي الرهاب وأجواء قصص أخرى نشعر بحالة الخوف المستمرة التي تستوطن عمق نفوس البشر السلطة الرهيبة التي تحصى الأنفاس وكيف ان الإنسان.. من أجل حماية نفسه.. يكاد يقطع أنفاسه لشدة حبسها.
في قصة (عندما توقف المصعد) سيطرة للخوف الكامن في الأعماق وان يكن له هنا تبرير واضح قد يكون معقولاً هو توقف المصعد. مرة أخرى نجد صورة النفوس المسكونة بمشاعر تجعلها شدة اخفائنا لها تنفجر فينا بأشكال ونوبات مختلفة عند ازدياد الضغط. إنها انفجارات تستطيع تفكيك النفس أو الاخلال بتوازنها في أفضل حال.
في غليون العقيد أجواء تذكر ببعض أجواء غابرييل غارسيا ماركيز خاصة في (خريف البطريرك) وتتناول موضوع الهوس بالخلود أو الخلود المفروض فرضاً.
قصة (الجثة تطلق الرصاص) تمثل رؤية للعالم والناس تكشف عن قناع يتعذر اكتشافه على كثيرين. وفي قصة (ضيف قديم) صورة أخرى للنفوس المسكونة التي تبدو أحياناً على وحدتها الظاهرية ذات طبقات قد لا تكون متوازية بل تصل إلى حد التعارض أو إلى حالات سجها الكاتب فكرياً ونفسياً لتشبه الفصام لكن في هذا الفصام تعيش شخصيتان لا تخفى إحداهما عن الأخرى التي تحاول طردها فتوفق بشكل مؤقت.
تبقى لغة عبدالملك وصوره في غالبها شخصية أصيلة ومحركة مميزة.