كتاب - "الزهايمر" لهنادي زرقه: كأنني لم أرَ أحداً غير ضباب

تضعنا الشاعرة السورية هنادي زرقه، في مجموعتها "الزهايمر" (دار نلسن)، أمام واقع أنّ القصيدة لا تأبه للحشرجة ولا يرفّ لها جفن إزاء احتضار الذات داخل اللحظة. الأم، محور المجموعة، تُحيِّر الإبنة وهي تعاني نسياناً عميقاً بفعل الالزهايمر، وترميها طريحة الذنب والشفقة.
تحضر الأمّ بكامل ثقلها في المجموعة، مُعاكِسةً أثرها اللطيف المفتَرض تكوّنه في نفوس الأبناء. كما النسيان يحلّ تدريجياً، تحلّ هي عذاباتٍ متقطّعة في روح ابنتها العاجزة أمام مرضها، التوّاقة هي الأخرى للنسيان. القصيدة هنا ليست ملك ذاتها؛ بل مسيَّرة، وليس لها أن تختار مصيرها بل أن تُذعِن للقدر؛ ذلك عينه الذي صنع مأزق الأم والإبنة، وخطّ وجود الواحدة بالأخرى وعدمهما معاً على السواء. الأم نفسها غير محفِّزة على الكتابة، على عكس مرضها وكيفية تقدّم المرض، فيما الإبنة إذ تعجز عن دفع البلاء عن المريضة، تتسامى عن عجزها باجتراح القصيدة. تتخذها درعاً تكفّ عنها صوتاً لا ينفكّ يذكّرها بوهنها وبأنها مذنبة، لم تُحرِّك ساكناً إزاء مرض يسلب أمّها حرّيتها ويطمس معالمها.
الضمير في المجموعة يملأ حيّز الأم الغائبة إلا بجسدها المتثاقل. وإذ هي ترزح أسيرة صمت مطبق وتشوّشٍ قاس، يتخذ هو هيئة الملعلِع الصادِح المُلِحّ على التعذيب العلني. يُعذِّب الإبنة كونها الطرف الواعي هول ما تعانيه أمّها، فيما الأم تغدو مسبِّباً لآلام ابنتها من دون أن تدرك ذلك أو تشعر به. يحدث هذا على مرأى العناصر المكوِّنة مشهد الخذلان والخلفية المنكسرة: المارة الذين لا ينظرون الى الخلف، المطر الذي يبلل الغسيل على الحبل، المساء الذي يتأخر في الحلول، الأزهار التي تمضي الى حتفها، الفراشة التي تغزل موتها الفريد، الفشل في الاحتفاظ بالرجال، واعتياد الغياب الذي سيحلّ آجلاً أم عاجلاً. الأم في منأى عن هذا كله، تُحدِثه في ابنتها وتنسحب منصرفة الى التيه والاستسلام.
ليس الموت أكثر ألماً من مرافقة انسان الى موته، ومراقبته يُحتَضر من دون أي وسيلة تُمكّنه من النجاة. عند هذا الحدّ فقط، يغدو طيّباً، ألمه أقل. الأم المصابة بالالزهايمر، لا تنفكّ ابنتها تتصوّرها ميتة وتتدرّب في القصيدة على زوالها. عبثاً تؤجّل لحظة الفراق، وهي تلمس قُربَها كون موت المرء هو عينه موت الذاكرة والظلام التام. تتساوى الشاعرة بمصاب أمّها على مستوى كون المرأتين ضحيتي النكران الإجتماعي الذي يرافق بالضرورة تقدّم المرء في السنّ ومآسي الشيخوخة واستحالة الشفاء. ترفض الشاعرة عجزها تجاه أمّها، وتعوّض عنه بالإفصاح عن حال الرفض، واطلاق القصيدة نحو الإعتراف، كونه مَخرجاً لاحتمال لا أن تُشفى أمها بل هي، أو أقلّه تتقبّل فكرة الشفاء. تبوح بالتفاصيل. حينذاك لا بدّ من التعاطف مع القصيدة عوض محاكمتها وادانتها وتحميلها مسؤولية التواطؤ مع الجرح بدل تعمّد نكئه والتعالي عليه والتمهيد لقتله. إزاء التنصّل الذي تلقاه من أبناء آخرين كانت أولويتهم أشغال الحياة ومتطلّباتها، فتركوا الأم للابنة - الشاعرة تعتني بها وتتعلّم منها شيخوختها؛ تصبح القصيدة فاجرة، متوحّشة، مُنتقِمة، تشاء لو تملك أن ينتهي هذا كله، وتتبدّل وضعيات الأحوال: "سترون امرأة نظيفة. لن تلمحوا الفطر بين أصابع قدميها. وقد التهم أحلامي. ستنفرون من رائحة فمها قليلاً، ،وتكتفون بقبلة على الرأس، وتنصحونني بإطعامها جيداً. سأهزّ رأسي موافقة. وأكمل قصّ أظفار قدميها بهدوء، كأنني لم أرَ أحداً غير ضباب".
بالخيبة تُقابل الشاعرة تقاعس اخوتها تجاه الوالدة المنتهية. تلومهم خفية كأنهم لن يصلهم النداء، وأنها لا تفعل إزاءهم غير واجب الحسرة. هي هنا تواجه ذئبين: مرض والدتها والوحدة الهائلة. ما حولها، حتى الوقت، في ذهول تام. هي بمفردها مَن قُدِّر له، بخياره، أن يتحمّل تعوّد المجتمعات المتوتّرة على إدانة المرضى ومقابلة أوجاعهم برعب أن تنتقل اليهم يوماً. الابنة وأمها صورة عن محاولةٍ ما، مقابل اللامبالاة الجماعية تجاه منطق الإنسانية المتشظية جراء الحروب وبرك الدماء. ليس الأبناء المتخاذلون سوى مجتمع يُسيَّر أفراده وفق مادية مقيتة تشوّه القيم وتجعل المرء أسير عزلته الباردة غير الخلّاقة. كأنّ سوريا وآلام الوطن العربي في باطن القصيدة مخبَّأة في انتظار أن تعمّ العدالة، فلا تظلّ الذاكرة مسحوقة، ولا المرأة مثقلة بالخطايا الأبدية.

المصدر : جريدة النهار