مصر عندما علمت العالم

بقلم: مصطفى عبدالله*

 لا يمكن أن تذكر الحضارات الضاربة في عمق التاريخ دون حضور الحضارة المصرية كحضارة أم، نضدت الإنسانيات في نظام بديع، قبل أن تهديه إلى العالم المحيط بها وقتئذ، نبراسًا مضيئًا، على هدي نوره سارت بقية الشعوب في طريق ممهد نحو حضاراتها.
 ولهذا السبب وحده، كان على المؤرخ العملاق "جيمس هنري بريستد"، عندما ألف كتابه الشهير عن الحضارة المصرية القديمة، أن يسميه "فجر الضمير"، فالفجر له رمزية لا تخفى كتوقيت للبداية، ولبزوغ الضياء.
وإنه لمن عجب أن يحيا الإنسان في وطنه وهو لا يعي قدره في التاريخ ولدى الآخرين، ويعترف الدكتور وسيم السيسي بأنه كان من هؤلاء حتى تعرض لحادثة جعلته ينتبه، فجأة، إلى عظمة تاريخ وطنه، ولم يقتصر الأمر على مجرد الانتباه، بل امتد إلى دراسة تاريخ بلادنا، ووضع هذا الكتاب "مصر علمت العالم"، الصادر عن الدار المصرية اللبنانية.
ويروي الدكتور وسيم السيسي في تقديمه للكتاب هذه الحادثة: "كنت، وأنا في إنجلترا، حريصًا على الوجود في ال"هايد بارك" كل يوم أحد، وكنت كالغالبية العظمى من المصريين، لا أعرف من تاريخ بلادي شيئًا، إلى أن انعقدت، في إحدى المرات، حلقة نقاش بيني وبين رجل إنجليزي، وأخذ هذا الرجل يفخر ببلاده، وبانجازاتها في الحضارة، وفي سائر العلوم والفنون، وإذا برجل أسود، طويل القامة، ينبري للإنجليزي، متدخلًا في الحوار، قائلًا: أيها السيد، أرجو أن تتوقف عن التفاخر، لأنني من أعطاك الحضارة. فسأله الإنجليزي: كيف؟
فأجاب الرجل الأسود: نعم، أنتم أنجلوساكسون، أخذتم حضارتكم عن الرومان، وهم أخذوها عن اليونان، واليونان عن مصر، ومصر من إفريقيا، وإفريقيا قارتي لأنني نيجيري، فأكون أنا أول من أعطاك الحضارة.
صفقنا للنيجيري، وبقدر فرحي به كان خجلي من نفسي، فقد اكتشفت أنني لا أعرف لبلادي قدرها مثلما عرف هذا النيجيري".
وبعد ذلك بدأ الدكتور وسيم السيسي يقرأ ما يخص مصر من التاريخ، ويحضر مؤتمرات علمية تتحدث عن منجزات طبية مهولة تحققت لها عبر التاريخ القديم، ليجد نفسه، على حد تعبيره، "أصبحت واحدًا ممن وقعوا في هواها".
والكتاب عبارة عن مؤتمر تاريخي، ابتدعه الكاتب، محوره الرئيس هو "مصر الهوية والأنتماء"، استدعى فيه المؤرخين المهمين، وعلماء المصريات، الذين ظهروا عبر الزمن القديم وحتى زمننا المعاصر، ليتكلموا عن مصر القديمة من كافة جوانبها: الاجتماعية، أمثال: المؤرخان المصريان "مانيتون" و"إيبور"، والإغريقي "هيرودوت"، واليهودي "يوسيفوس"، والناشر الألماني المختص بالمصريات "إيبرز"، والعالم الإنجليزي "أدوين سميث"، و"فلاندرز بتري"، والمؤرخ الألماني "إدوارد ماير"، وعالم المصريات "ألفريد لوكاس"، والمؤرخ الأمريكي "وول ديورانت"، وعالم المصريات الفرنسي الأشهر "جاستون ماسبيرو"، وأستاذ علم التشريح الإنجليزى "إليوت سميث"، وعالم الآثار الأمريكي "جيمس هنري بريستد".
والكتاب، على قصره، إذ يقع في 176 صفحة من القطع المتوسط، عبارة عن رحلة بحث مهمة في تاريخ مصر القديمة، حيث أصَّل للوجود المصري منذ القدم، وأوضح بالأدلة كيف أن مصر هي منبع الحضارات الإنسانية.
ليس هذا فقط، وإنما، يثبت هؤلاء المشاركون في المؤتمر المتخيل، أن مصر هي الأرض التي نبتت فيها شجرة الديانات، وهي أصل التوحيد.
بل إنها صاحبة أول منجز اجتماعي تنظيمي يخص أمور الدولة، حيث كانت صاحبة أول تصور مُفعَّل للحكومة التي يمكنها أن تدير شئون البلاد.
كما عرجت أبحاث هذا المؤتمر، الذي تخيل الدكتور وسيم السيسي انعقاده، لتفنيد مزاعم بعض اليهود التي تتناول أدوارًا لهم في نشأة الحضارة المصرية القديمة، ليدحضها المشاركون تمامًا، لصالح نقاء مصريتها، وأصالتها.
ويختتم الدكتور وسيم السيسي هذا الكتاب القيم بقوله: "مصر هي الفلتة الجغرافية التاريخية، على حد تعبير جمال حمدان، التي يقول عنها: هي في إفريقيا جغرافيًا، وفي آسيا تاريخيًا، هي في الصحراء ولم تعد منها، بجسمها النهري قوة بر، وبسواحلها قوة بحر، تقع في الشرق وتطل على الغرب، قطب القوة للعالم العربي، وحجر الزاوية للعالم الإفريقي، وأصل الحضارة للعالم كله".  

* لمراسلة الكاتب:
[email protected]