يوميات العالم الأزرق في كتاب

دخل أحمد بيضون عالم الفيسبوك على مراحل. وحين أزمع على مغادرته جمع حصاده الفيسبوكي في كتاب ممتع، شيق، ساحر، ساخر، حمل اسم «دفتر الفسبكة- نتف من سيرة البال والخاطر». ينسب بيضون كتابه هذا إلى فرع من أدب السيرة يطلق عليه اسم «يوميات».
أن يكون أحمد بيضون الشاعر والمؤرخ والمفكر، أحد الفسابكة، فتلك ذريعة تسلّحنا بها على الدوام في وجه من يعيّرنا بوجودنا في هذا الفضاء، الذي يشرع خصوصيتنا للعلن ويجمع ما هب ودب، وهو أشبه بشارع عام تمر فيه أطياف من العابرين يصبحون كلهم «أصدقاء» بلغة الفيسبوك.
المقالة الفيسبوكية
لكن أحمد بيضون داخل الفيسبوك، كما في خارجه، ليس زائراً عابراً. بل هو يكتب كمن «يعطي الوجهة»، كما يقول جبور الدويهي. فهو ممن يحظون بمتابعة كثيفة، وكثر هم من ينتظرون تعليقاته التي تتراوح بين الومضات السريعة أو المقالة الفيسبوكية التي لا توفر قضية كبرى أو تفصيلاً يومياً من الأنظمة المستشرسة في الدفاع عن بقائها، إلى الثورات العربية طولاً وعرضاً، وكذلك ثوارها وأحزابها والمآلات التي ستحملنا إياها. لقد كتب عن كل شيء، بما في ذلك مولد الكهرباء في بنت جبيل، وكذلك التجديد الذي أجراه مع زوجته على بيته بيروت.
اشتغل بيضون على لغة الفيسبوك أيضاً، «في مساق سعي متواضع لتحسين المصطلح الفيسبوكي العربي»!
وإلى ذلك كله سطر ما أسماه «المقامة الفيسبوكية: وهي عبارة عن رثاء احتياطي لأي أحد من غلاة الفسابكة يتلى عند وفاته بغتة، وقد بدأها هكذا: «حدثنا عيسى بن هشام قال: كنت في السايبر كافيه ومعي أبو الفتح الفيسبوكي. فذكرنا أول العهد بالشبكة، وما لقيناه معها من لبكة... إلخ».
«المكان فيه هدر مهول للوقت» بحسب بيضون نفسه. لكنه ايضاً مغو. فكلما قرر المغادرة طلباً للهدوء، لا يلبث أن يعود ماضياً في زرقة العالم البديل.
لعنة الفسابكة
الروائي والكاتب حسن داوود بدا وكأنه الوحيد الذي يغرد خارج الفضاء الأزرق، فهو وإن كان موجوداً في الفيسبوك، لكنه لا يجد نفسه مشمولاً بمن أطلق عليهم بيضون «الفسابكة». فهو يقرأ الرسائل التي تأتيه، ويضم من يطلب صداقته إلى تلك القائمة «التي لا أعرف كم تجمّع لي فيها من أصدقاء، إلا انني لم أعلق بكلمة واحدة أضعها في ذلك المستطيل الصغير أسفل الصفحة».
لا يشعر داوود بالندم لعدم التحاقه بالعالم الافتراضي، ولا يبدو مصمماً على اقتحامه. لكن توصيفه لأصدقائه الفيسبوكيين يقول الكثير عما يشعر به كل من هو خارج الفيسبوك في هذا الزمن: «لقد سبقوني، وها انهم صنعوا في ما بينهم حلقات صداقة أجد أنني وحدي خارجها. بل إنّ لي أصدقاء في العالم الواقعي صاروا أكثر قرباً إلى أصدقائهم الافتراضيين مني».
لغة النسيم والقسوة
عرّجت الدكتورة شعراني على منحنيات الكتاب، مقتطفة منه ما اتصل بقضايا سياسية واجتماعية. مثل قضية تعرّي علياء مهدي، التي كتب عنها بيضون. دخل معها في جدل هادف متسائلاً: أين سيصل احتجاجها في التعري على عادة الأوروبيين؟ سيصل بها إلى قمع ستقمع به مجدداً. فالمؤسسات لا تنفتح على سمات المرحلة، والمجتمع سيقدم لها قمعاً إضافياً. وفاء شعراني قارنت بين علياء المهدي ونادي عبد الواحد، (وقد تعرت هذه أمام مصور لها للاحتفاظ بجمال تلوح فيه آفا غاردنر). بين الاثنتين «زمن امتد قرناً اكتمل فيه الانحدار من هضبة مرتفعة وقف عليها قاسم أمين إلى قاع أيمن الظواهري».
مكان مزاجي
طرح الروائي جبور الدويهي مسألة شكلانية: هل يمكن استيعاب نتاج الفيسبوك وتويتر وغيرها من وسائط تعبير مباشرة، في كتاب ورقي لا يحول ولا يزول؟ فالحذف والتعديل والتحديث أفعال أساسية على الفيسبوك، بينما الورق وما عليه نهائي. «ما نكتبه أو ننشره على الفيسبوك ثمرة مزاج قد يتعدل. هو مكان مزاجي وهو بموجب فكرته أي العقد الأساسي له، نشاط زائل عابر. هي وسيلة تعبير ما بعد الكتاب. يقال في إحصاءات كثيرة إن الفيسبوك يتجه إلى الصورة، وأن عدد الكلمات التي تنشر على الفيسبوك يتراجع والصور يرتفع».
يسجل الدويهي أن أحمد بيضون دمج الوسيلتين، وهو مدرك تماماً لما يقدم عليه، «فيوفر لنا كتاباً شيقا لعوباً غاضباً ساخراً متنوعاً».
لكن باعتقاد الدويهي أن بيضون لم ينصع تماماً لقواعد الفيسبوك، الموجز بطبيعته. فهو يطيل في كثير من الأحيان. لكننا نقرأ بشوق تتماته.
الكتاب: «دفتر الفسبكة- نتف من سيرة البال والخاطر» لأحمد بيضون صدر عن دار شرق.