رواية "اسم العربة - او الرجل الذي تحاور مع النار"، للكاتب العراقي زيد الشهيد، الذي سبق أن أصدر عن المؤسسة العربية أيضا رواية "فراسخ لآهات تنتظر" ورواية "أفراس الأعوام"، نقرأ منها:
أنت هنا
قراءة كتاب اسم العربة
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

اسم العربة
الصفحة رقم: 3
(1)
يوم متوسطي ممطر
منذ عصر أمس حتى اقتراب ظهيرة هذا اليوم المجنون من أيام ديسمبر من عام 2010 كان المطر يهطل بلا انقطاع، وشوارع سيدي بوزيد وأبنيتها البيضاء تستحم بالماء المدرار وسط قلة مركبات لم تعهدها هذه المدينة في مثل هذا الوقت من أيامها الجارية، حيث الشمس تسكب نورها الدفيء وتقول للمتسوقين والباعة على السواء خذوا من حناني المتسلل إلى قلوبكم، وتدفأوا في هذا الشهر البارد الذي تهرب من زمهريره بلدان ما وراء البحر المتوسط وشعوبها، أولئك الذين يُطلق عليهم شعوب شمال أوربا·· يأتون كالطيور المهاجرة الباحثة عن دفء يهبهم رغبة البقاء في عيش رخي يخلو من المفاجآت، فيجدون ما يفرد ذراعيه ترحاباً، ويقول: هلموا، انهلوا من خيرات الله في بلد الله·
الآن والساعة تتجاوز الحادية عشرة توقف المطر، وهيمنة قبضة الغيوم تفككت· تسللت حزم ضوئية باهرة لشمس افتقدها الجميع طوال فترة الصباح·· في هذا الوقت انطلق الباعة ممتلئين بالحبور، ومفعمين بأمنية بيع وفير، لاسيما وحركة المارة شرعت تزداد والمتسوقون يدخلون سوق الخضار· تجول عيونهم على المعروضات من الفواكه والخضر·
صباح هذا اليوم كان استيقظ على نداء أمه في ضرورة النهوض والتحرك بعربته صوب ميدان الجمهورية· نهض متململا· يدمدم كأنه يصرخ في وجه العالم والدنيا التي سحبته من رحم الأم الدافىء: (إنهم يحاربوننا في رزقنا فكيف يروق لنا العمل؟)، ويتمتم كما لو كان في وجبة عتاب مع الخالق: (لماذا ولدنا في وطنٍ كهذا لا مكان لنا فيه، ولا مخرج من هذه البلوى!)· يفوه بملحمة الألم يومياً على مسمع أمه· والأم اعتادت على تلقي تلك التراجيديا المتكررة بقلب يقطر جزعاً، وفم يمتلىء مرارةً·· فضل البقاء في فراشه رافضاً الخروج ومواجهة المعاناة من جديد·
صوت المطر يُحدِث في رأسه طرقات هائجة آتية جراء قطراته الضاربة بقوة على زجاج نافذة غرفته، التي تشكل واحدة من ثلاث غرف وصالة بمثابة بيت يضم عائلة بعديد الأفراد· الصوت يستحيل نقراً يتضخم فيبدو كما لو كان دوي انفجارات، يحاول تفاديه بتكوير رأسه ودفعه إلى بطنه، متخذا شكل جنين في رحم، مستعيناً بالبطانية التي تبث رائحة جسدٍ استعان بها ساعات طويلة· يحاول سرقة دقائق كرى فلا يقدر، ويتضرع للسماء أن توقف حربها عليه فلم تستجب·· لكن صوت نداء الأم وطلبها منه أن ينهض دفعه إلى رمي الغطاء عنه، وتمتمته بكلمات فيها تذمر فهمتها الأم وإن لم تسمعها بوضوح· توجه صوب المغسلة، تناول قطعة صابون صغيرة، مد كفيه تحت صنبور الماء·· وفي المرآة طالع الصفرة المتسيدة وجهه، والجزع الطافح من عينيه مثلما تابع تيبس شفتيه وتقشر وجنتيه·
في طريقه وهو يدفع العربة مر من أمام مقهى (الخيام)، لم يكن ثمة جلاس باستثناء قادري يتخذ المنضدة المحاذية للزجاجة الأمامية للمقهى، ومنضدة يتحلَّق حولها ثلاثة عمال يعانون البطالة وينتظرون من إبراهيم صاحب المقهى تكليف أحدهم بنقل صناديق المشروبات الغازية حين تأتي عربة توزيعها مقابل أجرة تعادل أجرة جلوسهم وتناول أقداح القهوة التي يبغون·
رفع يده تحية لقادري، راسماً ابتسامة مقصودة فهمها الذي في الداخل على أنها رسالة سريعة كتلك التي يبعثها هو في تحاوره مع الآخرين عبر شبكة الانترنيت من الـ(لاب توب) الذي يصاحبه ويحمله أنّى ذهب·· صاح قادري، يناديه: تفضل يا محمد·· لكن محمد لم يتوقف· فقط لوَّح بيده شاكراً، واصطاد من عينيه بوحاً يقول: سيقتلك حب عائشة قبل أن تظفر بها، يا قادري (·· إنه ينتظرها كل صباح متجهة إلى مكان عملها في ورشة صناعة الفخار: أوان متنوعة الأحجام والمتطلبات، ومزهريات مختلفة يحكم صناعتها الذوق والفن، ونافورات تتشكل من بين الأنامل الرقيقة لفتيات خمس كانت عائشة المتخرجة من معهد صفاقس للفنون الجميلة إحداهن، وثلاث نساء يرأسهن سي عزيز القادم من الأكاديمية الايطالية يحمل شهادة الماجستير في فن النحت، الذي افتتح الورشة هنا قبل خمسة أعوام لتوفر المادة الخام من الطين المناسب لخلق الأشياء التي تدخل في الحياة المنزلية للناس)· صباح كل يوم تمر عائشة من أمام المقهى فيبصرها قادري· يمتصَّها بالنظرات، ويخاطبها بالحسرات· يتأمل القوام الناهض، ويحاور البشرة المليحة· يبعث برسالة أثيرية تترجمها: >متى يحنُّ القلب فتطاوعينه، وترسمين ابتسامةً، فكلاماً، فموعداً، فلقاء؟ ·