"مدينة الله" رواية الروائي والقاص الفلسطيني الدكتور حسن حمي، عن منشورات المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، ومن غير القدس يمكن أن تكون مدينة الله؟!
أنت هنا
قراءة كتاب مدينة الله
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

مدينة الله
الصفحة رقم: 2
القدس
ها أنذا،أكتب إليك من القدس·
لم أشأ الكتابة إليك مباشرة قبل أن أمكث فيها ليلة أو ليلتين، تعرف جيداً أنني عبَّأت روحي لمثل هذه الزيارة، وقرأت عن القدس الكثير، والتهمت معظم تاريخها خلال أشهر، ولم أترك، قدر استطاعتي خبراً، أو حادثة، أو موقفاً، أو علماً، أو مكاناً، إلا وجالسته كي أعرف هذه المدينة أكثر وإن كان من خلال قراءاتي· لم أدع كتاباً من كتب الرحلات المقدسية القديمة والحديثة إلا وأتيت عليه كي أعرف سرانية المدينة، ودهشة النفوس، وحيرة العقول، وبهجة الخواطر التي رأت المدينة وعرفتها أو عاشت فيها أياماً أو شهوراً أو سنوات·
تعرف جيداً أنني مفتون بالقدس مكاناً، وتاريخاً، ومعتقداً، ومعنى، لهذا، وقبل أن أهم بزيارتها مغادراً مدينتي سان بطرسبورغ ·· ذهبت إليك، وأنت المؤرخ، والسياسي، ورجل الفكر، وصاحب الرحلات الشهيرة وأستاذي في اللغة العربية·· كي أتزود بوصاياك لزائر مثلي يزور القدس للمرة الأولى ·
أذكر أنك قلت لي، ستدهش، وتصاب بسحر المكان ومغناطيسيته حالما تصل إليه، وهذا ما حدث فعلاً، فأي مكان خرافي هذا الذي أراه، فالبيوت هنا أشبه بالدوالي عناقاً وتعريشاً وتآخياً وهمساً وجمالاً، وهي على الرغم من تطاولها·· دانية مثل العناقيد، وطرية كالثمار، وذات رائحة تشبه رائحة الحناء والزعفران، عتبات البيوت متشابهة مثل أولاد أسرة واحدة، والشبابيك الوسيعة طولاً وعرضاً مملوءة بنداءات الترحيب·· لأول مرة أشعر هنا بأن شبابيك البيوت تشبه المرايا الصقيلة، تشبه وجوه ساكنيها·· يا لطلات النساء المقدسيات من الشبابيك الحانية، ويا للنباتات التي تزينها كبساتين الدروب··
هنا، وفي منفسح رحب تتلاقى فيه الدروب·· تلاقيك شجرة خروب مذهلة في اتساعها، وامتدادها، واصطفاف أوراقها وأغصانها، وزقزقة طيورها، وكثرة قرونها السود لذيذة المذاق·· لكأنها قرون السكر التي حدثتنا عنها الأساطير؛ تلك القرون التي كان يتهاداها العشاق في الأمسيات الرخية·· أتذكر ما قالته الأسطورة عن بنات القدس، من أن رضابهن الحلو·· حلوٌ لأن أمهاتهن أكلن الكثير من قرون الخروب، هنا، وفي الظلال الطويلة لهذه الشجرة تفترش النساء البلاطات الحجرية وهن يبعن العطور، والثياب، والحناء، والزعتر، والزعفران، والعنبر، والقرفة، وجوزة الطيب، وأعواد القرنفل، والبخور، والسمسم، وحبة البركة، والرمان، والتين، والكعك، والمكاحل، والأصبغة، وأعواد الند والصندل، والأساور، والخرز، والخواتيم، والأقراط، والريش، والقهوة، والسكر الفضي، والقمردين، والجوز، واللوز، والبندق، والزنجبيل·· وإلى جوارهن نساء أخريات يخبزن أقراص الزعتر، والسبانخ، والحميضة، والهندباء، والكشك، والفليفلة الحمراء، والجبنة، والقريش·

