رواية "ساعة ظهور الأرواح"لالمؤلف البحريني عبدالله خليفة، تذكرنا برواية توفيق الحكيم الشهيرة "عودة الروح" لا يقتصر على التشابه في الكلمات ومعانيها المحددة بل يتجاوز ذلك إلى تلك الرسالة الواضحة وهي احياء ما بدا كامنا أو ميتا من روح الجماعة وإعادة الحياة إلى ت
قراءة كتاب ساعة ظهور الأرواح
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 1
(1)
الظهيرةُ رهيبة، أرضُ السبخ الواسعة تئزُ بالنار، والبخار، والمستنقعاتُ المتناثرة تغلي، والبحرُ القريب يتوهج وتنبعث روائحٌ فظيعة من المقصب حيث تـُذبح الأغنام والثيران والإبل·
أكواخُ السعف تضطجع فوق تنكة شوي السمك، والخوص المتماسك يقترب من الحريق، والجريد منفتح قليلاً للهواء القليل، الذي لا يدخل الغرف حيث ترقد الأجسام بمحاذاة الجريد، أو في الأحواش ذات المظلات المبنية من السعف أو القماش الرقيق، والقريبة من جرات الماء الكبيرة الملأى والملفوفة بالخيش المبلل··
الأرضُ تطلق بخاراً وفحيحاً، والبحرُ يمدُ لها لسانه المشتعل، والصبيةُ يلعبون بين هدفين، ويجرون بسرعة ويصرخون على بعضهم البعض، والكرة تنطلق بين أقدامهم، ويبدو يوسف، الفتى الأبيض الحلو، أكثرهم اندفاعاً وصراخاً وتسللاً، ويستطيع أن يقتحم الهدف ويسجل ويقفز فرحاً، ويعترضه جوهر، الفتى الأسمر النحيف، الذي يبدو متخثراً ومتحللاً من العرق والحر، ويتشاجران، ويترنحان على الأرض، وحينئذٍ بدأ نزاعٌ طويل··
الشيخُ درويش كان في مهمة خطيرة، رغم القيظ الشديد الذي فضح وجوه النسوة، وهد حيل الرجال، وأوقف الحمالين عن الذهاب إلى السوق، فقد بدا درويش خارج التضاريس، محلقاً في ملكوت من حبات البردى، وروائح الزعتر والقرنفل، كان يتمتم بنشوة، وبدا إنه يتحدث مع أحد ما، وراح قليلاً قليلاً ينتقل إلى طقس مروع، كانت عروقهُ تتشنج وتظهر كأسياف مشتعلة، وثوبه الأبيض النقي يمتلئ بالهواء، وبدا إنه يطير ويحلق فوق الحضور المأخوذ، ويحل ظلامٌ دامس، وأصابعه غدت طويلة مشعة، تسربُ حبات من الكهرمان وأوراق الدفلى الميتة والدود الحي المتقافز والعصافير الكثيرة الملأى بالغبطة التي تخترق السعف الكثيف··
الصبية الذين يتشاجرون أُخذوا بالطقس المتغير المتلبد، ودهشوا من الغيم الذي ظهر بغتة، غيومٌ غريبة، حادة، طويلة، كأنها جلود ثعابين مسلوخة، ملونة بالبَرَد والبرق والظلام، وفي معيتها ريحٌ باردة تنفثُ حرارةً وامضة لاسعة، ولكنهم لم يتركوا الشجار، مصطفين في فريقين متصادمين، وكان يوسف يحاول أن يؤجج الآخرين ضد جوهر الذي أحاط به الكثيرون، وكان ساقطاً على الوحل وقميصه وجلده متحدين بالتراب··
في تلك اللحظة الغريبة كان جوهر يشاهد رؤوس الصبية متداخلة بنيران السماء، ويرى أقنعة الفضاء تثرثر مع الغيم والهواء، وثمة أصابع طويلة من الضؤ والَبَرد والحلوى تتغلغل في ثيابهم وأجسادهم، ولكن الصبية راحوا يقحمون أحذيتهم في خاصرته··
ثم أخذوا ينتبهون إلى الجو الغاضب، وشعروا كأنهم أحدثوا جرماً ما، ومدوا أيديهم إلى جوهر فأمسكوا وحلاً ودماً·
لكن السماء كانت قد أثيرت كثيراً، فجاءت رقعٌ كبيرة من السحب والضباب البارد، وقرقع برقٌ كأنه صارية مشتعلة على وجه البحر، فارتعشت الأسماك ميتةً، وصاحت الغنمُ في زريبة المقصب بذعر شديد، فما كان من الأولاد سوى أن أطلقوا ضلوعهم للريح، وبدت صرخاتهم تعلو على نحيب الخراف، ودهش الأولادُ وهم يصطدمون بأجسام رهيفة، شفافة، كانت تدخل جيوبهم وآذانهم وأفواههم، وتثير ضجةً في خلاياهم، ثم راحت هذه الأجساد الرهيفة تستوي وجوهاً، ملأى بعيون وابتسامات وأفواه متفجرة باللغة، وبأقنعة من ورق الزهر سرعان ما تتمزق لتتشكل، وحلق يوسف مع أحدها، رأى رجليه ترتفعان عن الأرض فأطلق أول صرخاته، ثم راح يصعد ويصعد حتى رأى أفق البحر البعيد، حيث تبدو الجزيرة التي يجدفون إليها، ثم رأى غابة الأكواخ الواسعة، وميز الدخان الذي يتلون بين تلالها، والشارع الصغير الضيق الذي يحدها من الغرب، وكانت أولى الأضواء الخافتة تظهرُ فيه الآن··
وأحس بغيمة الضؤ والضباب تضغط عليه بقوة، وتلحس جلده، وتكاد تمص دمه، وبدأ يصرخ، وإذا بماء حلو غريب، وإذا بسقوط من شاهق، وثمة إبر تغوص في جسمه، وإذا به يتخثر، ويرى أشياء غريبة كثيفة، وأحس بغيبوبة··
وكان الأولاد يسابقون الأثير ويمتطون الريح للوصول إلى بيوتهم، ولكن لسعات المطر المفاجئ كانت تخترق سيقانهم وتباعد بين أقدامهم، وأمسكت قبضتان قويتان جوهراً· كان قد استحال إلى كتلة من الطين والتراب وبدا كشبح، أو كجسم غير مرئي يناديه رفاقه ويعرفون موقعه من أصواته، وفجأة تحول إلى عمود من نار، أو شعلة ضؤ طويلة كمسمار راح يحفر الأرض والسماء، وهو كان يراهم كأنه في طائرة محلقة بعيداً وهم يركضون تحته كدبابيس صدئة··
بعد ذلك صُب عليه بئر من ماء·