تشكل المجموعة القصصية، انعطافاً نحو عالم داخلي، فهي تؤشر بعبثية لزلاّت الحياة قبل أي شيء آخر، وبقدر ما تنبش في واقعٍ نتفادى التحرش به، بقدر ما تشفّ لتكشف ضعفَ الإنسان حين تتطلب الحياةُ قوةً وصلابة، وجبروته حين تقضي الحاجةُ رفقاً وليناً.
قراءة كتاب أبي لا يجيد حراسة القصور
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية
الصفحة رقم: 2
» سيـرة ذاتيّة برغوة القهوة
لم أذق فنجانَ قهوة أطيبَ من تلك الّتي كان يُعدّها لي راميش، فمنذُ أن التحقَ بالعمل هنا، وطعمُ القهوة في فمي صار له مذاقاً مختلفاً.
أعترفُ بأنّي من عشّاق القهوة؛ أتتبّعُ نكهاتها، طرقَ تحميصها، وفنونَ مزجها وتحضيرها، إذ لا شيءَ يعادلُ في نظري، تلكَ الرّشفة الأولى الّتي تمتصُّ بها رحيقَ القهوة ورائحتها معاً. لذا لم أتنبه يوماً لعدد فناجين القهوة الّتي أحتسيها، والّتي يُصرُّ راميش على وضعها على طاولة مكتبي، كلما رآني متعباً، أو رائقَ المزاج.
جاءَ للعمل هنا قبل سنتين؛ شأنه شأن ملايين الهنود الذين يملؤون كلّ شيء حولنا.
في أوّل يومٍ له، دارَ على الموظفين، وهو يحملُ دفتراً صغيراً، يدوّنُ فيه المشروبات الّتي يفضلونها، ومواعيدَ تقديمها. حين وصلَ مكتبي، نظرتُ في وجهه مليّاً، فرأيتُ فيه بشاشةً أعجبتني؛ وجدتهُ فاحمَ الوجه، نحيلَ الجسم، يرتدي زيّ عامل البوفيه بانكسار، بينما تشي ملامحهُ بوجعِ الغربة، واضطراب الشّاب الّذي يسافرُ لأوّل مرّة.
سألني وقتها بإنجليزيةٍ سليمةٍ -وهو ينظر لطاولة مكتبي وشاشة الكمبيوتر باهتمامٍ بالغ- عمّا أودُ شربه، فأجبتهُ على الفور: "تركش كوفي ويذآوت شوغر.. بليز".
كان أوّل فنجانِ قهوةٍ وضعهُ أمامي غايةً في الدّهشة؛ الراّئحةُ تحومُ حولَ الفنجان، ووجهُ القهوة المنتفخ بالرغوة، يغري بارتشاف المزيد. من يومها باتَ لقهوتي طعمٌ آخر. كنتُ أشعرُ بسعادته، وأنا أثني على طريقته في إعداد القهوة، وأتبادلُ معه القليل من الكلمات بودٍّ واحترام.
في الحقيقة لم نتحدّث كثيراً، حتى أنه لم يخطر ببالي، أن أسألهُ يوماً عن المعهد الّذي تدربَ وتعلمَ فيه فنونَ الضيافة، وتحضير العصائر وإعداد القهوة التركية والعربية وغيرها من المشروبات.