أنت هنا

قراءة كتاب وتلك قضية أخرى

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
وتلك قضية أخرى

وتلك قضية أخرى

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 2
في زاوية ما ··
 
ببطء أسير، غارقةً في تأمل المشهد، وقبل أن أعبّ من جماله سمعتُ من ينادي باسمي·· أنا متأكدة أنه اسمي، بحروفه الهادئة التي لا يمكن سماعها إلا عن قرب·· لم أر شيئاً حين التفتُّ·· ثانية تكرر النداء، وثالثة، ورابعة، وفي كل مرة كنت ألتفت، يميناً وشمالاً، في الزوايا وخلف الأشجار الباسقة التي تصطفق أوراقها عند هبوب الريح فتحدث صوتاً كأنه تصفيق·· من علّم الأشجار تصفق؟ ثم لمن؟ ·· ونحن صغار، كنا نصفق للتلميذ الشاطر ولكل من ينهي عملاً يستحسنه الكبار·· وعندما كبرنا اتسعت رقعة من يصفقون·· في أثناء الخطب الرنانة التي تناسب المرحلة، وفي الأعياد الوطنية حيث المسيرات تسد الشوارع حتى ظننت أن الكرة الأرضية قائمة على أيد تصفق·· ومع أن أصوات الطبيعة تتداخل، الريح، حفيف الشجر، نباح الكلاب، زقزقة العصافير، إلا أن ذلك لا يمنع الصوت المبهم الذي ينادي عليَّ من الوصول الى مسامعي·· صوت لا أستطيع فرز نبراته، من شخص لا يمكنني تبين ملامحه·· ترى كيف عرف اسمي، وأنا المرأة الغريبة في بلد لا يعرف لغتي؟
 
كنت قد غيرت مساري اليومي من الشقة التي أعمل بها جليسة اطفال إلى شقتي، في محاولة مني لاكتشاف المزيد من خبايا مدريد موطنةً نفسي على المزيد من الغربة التي هبطت عليّ بعد سفر صديقتي المغربية·· ما زلت أسير ببطء في شارع كل ما فيه يتنفس الجمال، ببيوته ذات الشرفات العابقة بالأزهار والسقوف القرميدية والنوافذ المؤطرة بالنباتات المتسلقة·· بأشجاره العالية الكثيفة ومشاتل الورد الدائرية على الأرصفة··
 
مرّ بي شبان على دراجات بخارية، اخترقوا الأصوات التي تنثرها الطبيعة بأغان ضاجة بالحياة·· رفع أحدهم يده لتحيتي ومضى قبل أن يرى ابتسامتي التي تراجعت بعد ثوان، ثم سمعت صوت طيور الحب يأتي من مدخل أحد البيوت عندما مررت بالقرب منه·· وبعد بيتين فاجأني نباح كلب من وراء سياج مشبك فارتبكت خطواتي أول الأمر ثم ما لبثت ان استقامت·· لا أحد غيري في هذا الشارع مما زاد من شعوري بالوحدة، وربما بالتوحد مع الطبيعة، إلاّ أن النداء كان يخترق كل شيء ويصيح بي·· ها هو يأتي من الزاوية اليمنى حيث يستلقي جسدان يلتصقان في عناق محموم·· ما عادت هذه المشاهد تثير أحاسيسي كما هو الحال في الأيام الأولى لوصولي هذا البلد الغريب المستنير بأنوار ثقافات متعددة، ما عاد بدني يقشعر، ذلك أن تكرار المشاهد بالصورة ذاتها يفقدنا دهشة النظرة الأولى··

الصفحات