رواية "رجل وحيد جدًا" لمؤلفها يحيى عبابنة، الصادرة عام 2000 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، نقرأ من أجوائها:
أنت هنا
قراءة كتاب رجل وحيد جدا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

رجل وحيد جدا
الصفحة رقم: 2
وادي الذهب
الصحراء تمتد الى الشرق من مدينة وادي الذهب ·· فإذا ما سرت شرقاً فإنك لا تجد الا الصحــراء التــي تبـــدو كأنّها لا نهــاية لها ·· تبدأ صحراء خجولة قليلة الرمال حتى إذا ما توغلت فيها بدت كثبانها الرملية القاحلة كأنها السيوف الرهيفة المفروشة على بحر من لهـب ·· وعلى حافـة هـذه الصحراء تقـف مدينة وادي الذهب ··
إنها مدينة صغيرة، ليس فيها من الذهب إلا اسمها ·· فقيرة في كل شيء، ولولا هذه الصحراء التي لا نهاية لها لما كانت هناك مدينة، إنها مدينة صحراوية بكل معنى هذه الكلمة، فهي سوق للبدو الصحراويين، أتخيّل أحياناً أنها لا تتاجر الا بالمواشي لكثرة ما يؤمها الصحراويون لبيع حيواناتهم ·· ومع هذا فيبدو لي أنهم لا يشترون منها الا الحيوانات· على أن هذا الاحساس لم يكن له وجود فعلي في المدينة الصغيرة، فقد كان الصحراويون يشترون كل شيء يحتاجونه منها، فهم يشترون الدقيق والمعلبات والاقمشة والملابس الجاهزة ·· لقد كانت مدينة وادي الذهب كافية لهؤلاء الأعراب ··
كان سكان وادي الذهب من الريفيين الذين تمكنوا بعد طول كفاح مع الأرض المتصحرة القاسية أن يشكلوا مدينة خففت عنهم عناء العناية بالارض الهزيلة التي يملكونها، فقد شقت الحكومة طريقاً تجارياً عملاقاً، شاء قدر وادي الذهب أن يشطرها إلى شطرين، وعلى حافتي الطريق أقام السكان بعض المشاريع الاقتصادية الصغيرة، كالمطاعم والمحالّ التجارية البسيطة وورش تصليح السيارات واستراحات بدائية للسواح، وغيرها من أشكال طلب الرزق التي كانت تدر عليهم دخلاً جعل من حياتهم في آخر العمران شيئا فيه قدر من الراحة لا يقارن بالشكل الفج القاسي الذي كانوا يعيشون فيه قبل تكوين المدينة·
وعلى رأس تلة بعيدة عن السوق الصغير أقمت منزلي الصغير، تدخل اليه من شارع فرعي صغير أيضاً، ثم تسير في الممر الضيق الذي فرشته بالرمل الخشن حتى تصل إلى مدخله الذي يفضي الى براندا واسعة، احتلت حوالي ثلث مساحة البيت، وينفتح منا بابان، يؤدي الاول الى صالة صغيرة قسمت الى غرفة للاستقبال وأخرى للطعام، نادراً ما تناولت الطعام فيها، في حين يؤدي الآخر إلى غرفتي النوم، وفي المنزل مطبخ متوسط الحجم كنت لا أستخدمه الا لعمل الشاي او القهوة، وأما الطبخ فقد كنت أفزع منه لسببين، أولهما أنني كنت عازباً، وعملية الطبخ وما يتبعها من تنظيف الأطباق والأواني من الأمور التي تعافها نفس العازب، وأما السبب الثاني، فهو عملي الذي كنت أعيش منه، فأنا لست تاجراً يفتح متجره أو مزارعاً يجاهد أرضه الهزيلة ليحصل بعد كل عناء الصيف والشتاء على رغيف، ولكنني كنت ضابطاً صغيراً في القوات المسلحة، التحقت في صفوفها منذ تخرجي برتبة (ملازم) ثم تدرجت حتى صرت نقيباً فيها· ولذا فقد كنت من رواد المطاعم، حتى لكأني واحد من هؤلاء العابرين أو فرداً من أفواج السواح الذين يمرون من وادي الذهب يومياً إلى حيث أماكن الترفيه والتاريخ·
وعلى الرغم من هذه الحياة القاسية التي أصفها، فإنني لم أكن يوماً أنوي مغادرة وادي الذهب، إنه الاحساس الوجداني الذي يربطك إلى ابويك الفقيرين، والذي يجعلك ترفض أن تكون ابنا لغيرهما حتى لو كانا من ذوي المال والجاه والسلطان، أو إنه الاحساس الذي يجعلك تعرف كل نواقص الآخرين، مهما بدت صغيرة، في حين أنك لا تحسّ بأنك تفقد عينيك·· ولم أحس يوماً بجمال وادي الذهب، ولكنني لم أشعر برغبة ما، تجعلني ازَّاورُ عنها، ولهذا فقد وطنت نفسي على الرضا بالعيش فيها دون غيرها من مدن بلادي·
كما أنني راضٍ عن عملي الرضا كله، فقد كنت سعيداً بغير تكبُّر أو انتشاء بكوني واحداً من أفراد القوات المسلحة، وقد حققت نجاحا لا بأس به لمن هم في مثل رتبتي، وبدأ كبار الضباط يزرعون في نفسي إحساساً بأنني لا بد سأكون شيئاً ما في المستقبل ·· وباختصار لقد كنت ناجحاً في عملي إلى حد بعيد، وهو شيء يمكن أن يضاف إلى تمسكي بالبقاء في وادي الذهب ··
وأما على المستوى العاطفي، فقد كنت أشعر بالتردد تجاه الخوض في الحديث عن العواطف، ذلك أن أي إحساس تجاه الجنس الآخر لم يراودني يوماً ما حتى بلغت الثلاثين تقريباً، ولقد كانت جدتي تلح علي في بادىء الامر لأرتبط بواحدة من بنات أعمامي، ولكنها أدركت أخيراً عزوفي عن التفكير الجاد بالموضوع ولذا فلم تلبث أن كفَّت عن الخوض في الحديث عن الزواج والاولاد، وغيرها من البلايا التي نسمع عنها· وكنت لا أحلم حقيقة في ارتباط سريع بفتاة قد أكون عبئاً عليها أو ربما كانت عبئاً ثقيلاً على قلبي في مستقبل الأيام·