أنت هنا

قراءة كتاب بُرتقالات بغداد وحُب صيني

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
بُرتقالات بغداد وحُب صيني

بُرتقالات بغداد وحُب صيني

الكتاب يضم مجموعة من القصص المتنوعة في مواضيعها وأشكالها، وقد كُتبت على مراحل مختلفة، ومنها ما كُتب ونشر أولاً باللغة الإسبانية وما تمت ترجمته إلى لغات أخرى كالإنكليزية والبرتغالية وغيرها.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 1
التلفـزيون الأعْـوَر
 
ما إن بدأت السنة الثالثة عشرة من عمري حتى بدأت الحرب العراقية ـ الإيرانية، وقبل أن تكمل عامها الأول قُتل أخي الكبير وأُسر أحد أبناء عمومتي، فصرت أسمع أبي يشتم (السيد الرئيس) كلما وجد نفسه منفرداً مع أمي في البستان أو في المطبخ وغرفة النوم أو وهي تحلب أبقارنا في الزريبة، فأصاب بحيرة لا أعرف لها حلاً بين هذا الشتم البذيء وتلك الصور والأناشيد الجميلة التي يعلموننا إياها في المدرسة مدحاً بالقائد، المعلم الكبير، البطل، الشجاع، العبقري، القوي، الضَرورة والمُلهَم.. إلخ من قائمة أسماء وصفات طويلة بكلمات كبيرة لم نكن نفهم معانيها كلها آنذاك، ومع ذلك صرنا نحلم أن نراه ولو في المنام ـ وكان بيننا من يدعي أن ذلك تحقق له ـ أو أن نكون أمثاله حين نكبر. كما سمعت أبي يشتمه بعد منتصف الليل حين كنت أستيقظ لأشرب ماء أو لأبول وأمُر من قربه جالساً في الصالون مع أمي وعمتي والدة الأسير التي كانت تجيء إليه بعد أن ينام الناس في القرية كي تستمع معه سراً إلى إذاعة طهران العدوّة التي كانت تبث برنامجاً يومياً لرسائل الأسرى إلى ذويهم، وما إنْ ينتهي دون ذكر ابنها حتى تنفجر بالبكاء وتشاركها أمي. عندها يبصق أبي على الأرض خلفه بحنق ومرارة، وأحياناً يسحب نعله ويروح يضرب بصقته بحقد كأنها عقرب، ويطلق شتائم قذرة وهو الذي كان يعاقبنا على مجرد نطق أحدنا بكلمة نابية.. وهذه حيرة أخرى من كثيرات أوقعتني بها شخصية أبي. لكنني لا أنكر مدى فخري به كونه الوحيد الذي كان يملك صندوقاً صغيراً يتكلم ويغني اسمه (راديو).. وإن كان لا يدعه يغني أبداً، فبمجرد سماعه لموسيقى سرعان ما يبحث عن أخبار أو قراءة قرآن، فهو يجيد تقليب خيطه الأحمر ويعرف محطاته ومواعيد برامجها، لذا كان محور المجالس والنجم اللامع في مقهى القرية صباحاً حيث يلتف الرجال حوله يسألونه عن أخبار الدنيا البعيدة، وعن رأيه، فيجيد صياغتها بأسلوبه الخاص وهم منبهرون بسعة معرفته وفصاحته ويقدمون له أقداح الشاي وفناجين القهوة على حسابهم. وهذا أمر أثار حسد جليل الحداد فصنع صندوقاً حديدياً شبيهاً لكنه لم يتمكن من إنطاقه. اشترى أبي هذا الراديو إثر ذهابه إلى نينوى لبيع محصول الطماطم الوفير في أحد المواسم. وظل يمنع الجميع من لمسه. يخبئه في صندوقه الخاص ذي القفل الكبير، ولا أذكر أني قد لمسته إلا مرة واحدة حين قال لي وهو يخرج مسرعاً من البيت: احمله إلى أمك وقل لها أن تقفل عليه جيداً. ذلك حدث لا ينسى في حياتي. تفحصته بين يدي برهبة وألصقت عيني على ثقوبه كي أرى ما بداخله.. فتخيلت أكثر مما رأيت.

الصفحات