أنت هنا

قراءة كتاب هل أتاك حديثي

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
هل أتاك حديثي

هل أتاك حديثي

رواية "هل أتاك حديثي"، للكاتبة السعودية زينب حفني، الصادرة عام 2012 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، نقرأ من أجوائها:

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
الصفحة رقم: 1
(1)
 
تقلّبتُ في فراشي· سرت رعشة برد في أوصالي· نظرتُ إلى ساعة يدي الملقاة على الكوميدينو بجواري· كانت تُشير إلى العاشرة والنصف صباحا· في العادة طقس القاهرة بشهر يناير شديد البرودة· طردتُ كسلي· استجمعتُ نشاطي· نفضتُ اللحاف الصوفي عن جسدي· نهضتُ صوب الحمّام· اغتسلت بماء دافئ· شعور بالكآبة يتملكني منذ أن فتحتُ عينيَّ هذا الصباح· تاريخ اليوم يُوافق الذكرى السنوية الخامسة لوفاة أمّي· حمدتُ الله أنها لم تذق مرارة طلاقي· ظللتُ أنا وأختي تهاني محور حياتها إلى أن ذهبت لبارئها· كانت تدعو ربّها على الدوام أن لا يُريها مكروهاً فينا· أن يجعل يومها قبل يومنا· تعوّدتُ الحضور إلى القاهرة في مثل هذا التوقيت من كل عام لإحياء ذكراها· أحرص على الذهاب إلى مدفن عائلتها· أقوم بتوزيع الصدقات على الفقراء من ساكني المقابر، والشحاذين الذين يحرصون على التواجد لأخذ ما يجود به الزوّار· أعتدتُ كذلك إحضار مقرئ يقرأ آيات من الذكر الحكيم منذ الصباح حتّى سويعات الأصيل· اتفقتُ مع صافيناز ابنة خالتي أو صافي كما كنتُ أناديها أن تمرَّ عليَّ بسيارتها الفيات البيضاء الصغيرة· اعتدتُ عند قدومي للقاهرة الإقامة في الشقة التي ورثتها عن أمّي· كانت تقع بحي المنيل· عمارة قديمة· بُنيت أواخر عهد الملك فاروق· مكوّنة من أربع طوابق· الشقة بالطابق الثالث· تحتوي على أربع غرف واسعة المساحة· مفروشة جميعها على الطراز الفرنسي· غرفتا نوم مرفقتان بحمامين منفصلين· غرفة طعام واسعة تتوسطها طاولة يُحيط بها ثمانية مقاعد مع دولاب من الخشب الزان، زُيّنتْ واجهته الزجاجيّة بأوانِ فضيّة رُصّت بعناية على رفوفه الداخليّة· مدخل الشقة ضيق المساحة، علّقت أمّي في صدارته مرايا متوسطة الحجم، يحيط بها برواز ذهبي، ووضعت تحتها على الجانبين كرسيين مبطنين بقماش الجوبلان الأصلي· تتوسط المدخل سجادة إيرانية منسوجة من الحرير الطبيعي· غرفة المعيشة متصلة بشرفة معقولة الأمتار، تطلُّ واجهتها مباشرة على نهر النيل· قامت أمّي بإحاطة زواياها الأربع بأجاصِ من النباتات الطبيعيّة· تجد متعة في سقيها كل صباح بنفسها، وقصِّ أطرافها الميتة· اشترى أبي الشقة لأمّي قبل وفاته بأعوام قليلة· فرحت بهديته· كانت متعتها تناول الإفطار في الشرفة· عند الغروب تحرص على ارتشاف كوب من الشاي المنعنع مع عدد من جاراتها بالعمارة· ينخرطنَّ خلالها في التحدّث عن أخبار المجتمع· يزفرنَّ الآهات عن تغيّر أخلاق الناس اليوم مقارنة بزمنهنَّ الذي ولدن فيه· يتذكّرنَّ مُتحسّرات أناقة سيدات مصر في عصرهنَّ· كيف كانت المحلات الكبرى التي تملكها أسر يهوديّة مثل عمر أفندي وشملا وشكوريل تُنافس مدينتي لندن وباريس في خطوط الموضة الحديثة· بعد رحيل أمّي، لمحت أختي تهاني نظرات اللهفة تنبثق من عينيَّ· حلّت بذكائها شفرتها· تنازلت لي بطيب خاطر عن نصيبها فيها· قالت لي:
 
أنتِ تعلمين أن زياراتي للقاهرة قليلة، وأنني لم أكن أطأها إلا من أجل أمّي· لا أعتقد بأنني سأزورها في المستقبل القريب· أعلم مدى عشقك للقاهرة· حلال عليك الشقة يا فائزة
 
أبقيتُ أثاث الشقة كما تركته أمّي· اضطررتُ إلى التخلّص من أجاصِ الزرع بعد رحيلها· لم أكن أفقه شيئاً عن رعاية النباتات· بعد فترة وجيزة، تجاسرتُ وغيّرتُ غرفة نومي· اشتريتها على الطراز المودرن الذي أميل إليه· اعتدتُ إلقاء تحية الصباح على صورة أمّي الموضوعة بجانبي على الكوميدينو كنتُ قد حشرتُ صورتها داخل برواز جميل متداخل الألوان، اشتريته من مدينة فلورنسا الإيطالية· تبدو من ملامحها الفتية أنها التقطتها في عزّ شبابها عند أعوامها الثلاثين· بعد مضي سنوات على رحيلها، تلاشت هيئتها الهرمة التي خلّفتها في ذاكرتي، ولم تعد راسخة في ذهني سوى خطوط وجهها النضرة، وعينيها المضيئتين وابتسامتها المشعة التي تُنير صفحة وجهها·
 
أزحتُ غرّتي عن جبهتي بطوق بلاستيكي أسود اللون· وضعتُ طبقة من كريم الأساس أسفل جفنيَّ· حاولتُ جاهدة أن أخفي به هالة السواد التي ظهرت فيهما مؤخراً· وضعتُ قرطي اللؤلؤي الأبيض الذي ورثته عن أمّي· ارتديتُ بنطالي البني السميك وكنزتي البيج الصوفيّة· حشرت قدميَّ في حذائي البوت الطويل الجملي اللون· ناديتُ على لواحظ لتُحضّر لي قهوتي الصباحيّة، لم ترد علي· تأففت· نسيتُ أنها أخبرتني البارحة عند مغادرتها عدم استطاعتها الحضور اليوم، لسفرها إلى قريتها لحضور حفل زفاف فتاة من قريباتها· لواحظ لم أنظر يوما لها كخادمة· اعتبرتُها واحدة من الأسرة· أدين لها بفضل كبير· أقدّر لها في أعماقي، سهرها على رعاية والدتي بسنتها الأخيرة· تركتُ لها نسخة من مفتاح الشقة لتأتي مع ابنتيها بين حين وآخر لتنظيفها· قبل نزولي إلى القاهرة أهاتفها كي تشتري بعض الأطعمة التي أحبها· تقوم برصّها في الثلاجة، كالبيض البلدي، والطيور التي تُحضرها طازجة بعد ذبحها وتنظيفها· تُوصي على ما أريده من جارتها التي تسكن بالقرب منها في منطقة أبو أتاته الشعبيّة المتفرعة من شارع فيصل، حيث اعتادت على تربية الطيور بأنواعها على سطح بيتها· بعض أقارب أمّي أبدوا دهشتهم من تصرّفي· اعتبروه استهتارا منّي وثقة متناهية في غير محلها، كون الشيطان شاطر كما يعتقدون!! يُحذرونني أنَّ بإمكان لواحظ تغيير قفل الشقة والاستيلاء عليها في غمضة عين أثناء فترة غيابي· أنني سأضطّر ساعتها إلى أن أتردد على أروقة المحاكم· أردُّ باسمة أن لواحظ أوفى بكثير من أناس أعرفهم يتظاهرون أمامي بالصدق والنزاهة·

الصفحات