كتاب "هـدى والحياة - شذرات وحكايات" للكاتبة اللبنانية هدى وهبي صعب، الصادر عن مؤسسة الرحاب الحديثة للنشر والتوزيع، نقرأ من أجوائه:
أنت هنا
قراءة كتاب هـدى والحياة - شذرات وحكايات
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
اللغة: العربية

هـدى والحياة - شذرات وحكايات
الصفحة رقم: 1
أمّـــــــاه
أربعون سنة وجرحك ينزف، يرفض الاندمال، أربعون سنة تعضين على الجرح المثخن بدم الشقاء، تعاودك اللطمة تلو اللطمة، والفجيعة تلو الفجيعة، ذاك الجرح الذي كلما حاول نزفه أن يتوقف عضته أنيابٌ حادةٌ قاسية لا رحمة فيها، ونفث عقرب لعين سمه على جرحك البليغ.
أربعون سنة من الفجيعة، من المناحة، وذاك البركان الذي انفجر ولم يهدأ بعد، لا سبيل لإيقافه وجهدك مسفوحاً على باب الحقد.... . رحـــلة عذاب دامت 63 عاماً، أمّــــاه لم كل هذا العذاب؟؟!!
كنت أسمعك يا أمي، وكنت لا زلت طفلة، تـصرخين الوجع، تولولين وتندبين، وكانت أحشائي تتمزق. كنت ألمح في نظرتك الحبيبة إلى قلبي ثورة المظلوم وألمس في عينيك الزرقاوين (كم أحببتهما) انفجار الكبت. ورأيت الظلم يزحف اليهما زحف الجياع يود لو يلتهم كل ذرة منك، لكنك كنت قوية كالصخر، جبارة كالعظماء، طرية كالندى، وأنت مع هذا، تحتضنيني وأخي رجا. ولم اكن استطيع إنقاذك بسبب ضعفي ولين عظامي. كنت ارمقك والعين تغور بالدمع والحلق يغص بالكلمة، وكان كل ما بوسعي أن أفعله من أجلك هو إحساسي العميق بما كنت تقاسين ولؤلؤة تنحدر من مقلتي صامتةً محرقة.
وبعد سنين كبرت وكبر الهم وضاق صدري عن استيعابه وأصبح ظلاً يتبعني. وكنتِ أنت قد توشحت بالسواد حداداً على أبي الذي اختاره المنون وأنا في السنة والنصف من عمري. اللون الأسود هذا اللون القاتم... أكرهــــــه فهو أول من وسم طفولتي بالأسى وترسخ في نـفسي ولا يزال متربصاً بي.
أمّـــــاه.... كم تمنيت إنقاذك وأنت تجتازين مسالك الحياة الوعرة والعاصفة تشتـدُّ في وجهك تارة من الشمال وطوراً من الجنوب وأنت صامدة صمود الأبطال تحملين بيدك مشعل الحق والـشرف والمروءة. وتؤدين رسالتك في تربيتنا. إن روحي تضيق عن استيعاب حزنك الذي كان يحيرني ويقض مضجعي، لكني كنت أمني النفس بالفرج القريب... وتمر الأيام وأكبر مع أخي وأشعر أن غدكِ يكبر. وبدأت الغمامة بالزوال وكأنني بقلبك الكبير يتكوم ذابلاً في قفص مظلم يأبى الانفلات... وتتفتت جنباته لتذوب ويولد منها الأسى... لذا أكره اللون الأسود والثياب السوداء لأنها تذكرني بماضيك القاتم.
عشر سنوات وأنت تتشحين بالسواد، لم كل هذا؟ وأي أم ضحت كما ضحيت.. لا... مستحيل أن يكون هناك من ضحّى مثلك أو أكثر منك. ولا أقول هذا لأني ابنتك بل هي شهادة الأعداء فيك قبل الأصدقاء.
هذا ما يعزيني ويعزيك يا أمّـــاه... فلا أملك إلا أن أواسيكِ... أخفف عنكِ بكلمة حلوة... كم أتمنى لو أضمك إلى قلبي المشتاق وأبقيك على صدري مدى العمر وأبعد عنك الأسى وأخدمك بعيوني وأجعل روحي مأوىً لكِ وأعمل من أظافري سيفاً أقطع به رقاب باغضيك ومسببي حزنك وهم أدرى الناس بأنفسهم، فسحقاً لهم أيّا كانوا، وسحقاً لأفكارهم... وقد أرانا الله العبرة في بعضهم والغد قريب ليريني العِبَر في الآخرين. فما من حاسد ارتفعت يده على مرتزق بالحلال الا وكان مصيرها القطع ولا كبرت يد لمست قلبك بسوء، ولا انتعش فؤادٌ أحزن قلبك، ولا فرحت نفسٌ سمحت لنفسها بالإساءة إليك، ولا أضيء نورٌ في عين نظرت إليك بقسوة...
دعائي صراخٌ من قعر قدمي وجلجلة حاقد يغلي في أحشائي. دعـــائي صراخٌ لن يسكت إلا بعد أن أرى العبرة في قلب من أساء إليك ومن جرح شعورك ومن كسر بخاطرك جعله اللـــه قوتاً لنار لا تخمد ومأوىً لبركان لا يهدأ.

