"الخواجا" هذه مجموعة من القصص والحكايا والطّرائف اللطيفة التقطتها عينا الكاتبة الشّابة فدى جريس من أفواه الكبار سنّاً من أهل قريتها الجليليّة الجميلة، وأعادت نسيجها بمغزلها العصريّ وهي تحمل القارئ على جناحي غمامة فلسطينيّة إلى سنوات خالية فيها طيبة الناس وس
أنت هنا
قراءة كتاب الخواجا
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
فجأة لمح جنوداً أمامه. فكر سريعاً في تغيير مساره، لكن بعد فوات الأوان. رأوه وأشاروا إليه بالتوقف. نظر مستاءً إلى الجنديّين اللذين اقتربا منه. سألاه عن وجهته، ثم طلبا منه الترجل عن الحمار.
‘خير؟’
‘بدنا نشوف شو جايب معك. ما بتعرف إنه التهريب ممنوع؟’
‘هذا مش تهريب، هاي الأغراض جايبها إلي.’
‘بدك تدفع عليهم جمارك.’
‘شو؟’
‘انت جايب اغراض من بلد لبلد، فلازم تدفع عليهم جمارك عشان تدخّلهم. هات لنشوف...’ قال أحدهما. ثم هز رأسه إعجاباً. ‘شو... كل هذا إلك؟’
‘آه. كنت في زيارة عند معارفي واشتريت أشياء للبيت...’
كان الجنديان يقلّبان في الأغراض إلى أن رأيا زجاجات العرق، فانقضّ الأول وهو يقول بصوت ماكر: ‘في عليك جمارك كتير لازم تدفعها، لأنك جايب كماليات.’
‘شو يعني؟’
‘يعني الأشياء اللي جايبها هي للكيف والبسط ومش شغلات أساسية.’
‘ها!’
‘بدك تدفع خمس ليرات.’
‘شو! كل حقهم ما بيساوي هالقدّ!’
‘شو الإسم، بلا صغرة؟’
‘أبو السعد.’
‘وكمان إسمك كله بسط؟’ ضحك الجنديان، مما أزال شيئاً من التوتر، لكن الأول أكمل الكلام. ‘يا أبو السعد، هاي الجمارك اللي لازم تدفعها.’
تنهد في استياء. ‘وبعدين مع هالورطة؟’ فكر لنفسه. كان قد بدأ يشعر بخدر لذيذ من العرق، وتبخر الآن من رأسه. تباً لهما!
‘طيب، ما في طريقة نرضيكم يا شباب؟ بقنينة عرق مثلاً؟’
‘شو! بدك ترشينا؟!’ صاح أحدهما.
‘لا سمح الله! بس أنا ما معي مصاري. كل اللي كانوا معي صرفتهم عالاغراض. فإذا في مجال تقبلوا مني هالقنينة بدل الجمرك، ومنكون خالصين؟ شو رأيكم؟’
تبادل الجنديان النظرات. ثم قال الأول: ‘طيب، بس خدمة إلك، وإلا إحنا ممنوع نعمل هيك...’
تهللت أسارير أبو السعد. لقد أيقن أنهما سيقبلان، وهو واثق، أصلاً، من أن هدف كل هذه اللعبة هو أن يحصلا على شيء منه. ‘تشربوا سمّ!’ قال في سرّه.
‘بس بدنا اتنين، لأنك حامل ست قناني. وعلى كل قنّينتين، في جمرك بسعر قنّينة،’ قال الثاني بدهاء.
‘شو!’
‘هيك النظام...’ قال الأول بضجر.
تقلص وجه أبو السعد. إن التضحية بزجاجة واحدة مؤلمة بما فيه الكفاية، لكن أن يعطي زجاجتين من أفضل وألذ العرق الفاخر إلى هذين الصعلوكين، فهذا أمر لا يستطيع احتماله.
‘يعني إذا كان معي خمس قناني بدل ستة، بيطلع الجمرك قنينة واحدة، مش اتنين؟’
‘مزبوط...’ قال الجندي بشيء من الغباء. ثم أردف بابتسامة: ‘بس انت معك ستة.’
‘بسيطة...’ قال أبو السعد. وأمام ارتباك الجنديين، قام بإعطائهما إحدى الزجاجات، ثم رفع الزجاجة المفتوحة، التي كانت لا تزال في يده، إلى فمه، وخلال دقيقة أو اثنتين، شرب جميع محتوياتها.
سادت بضع ثوان من الصمت، والجنديان ينظران إليه في ذهول. ضاقت عيناه قليلاً واحتقن وجهه بالدماء، وبدا غير متوازن بعض الشيء. ثم رمى الزجاجة جانباً وقال بسعادة: ‘وهلّق، صاروا خمسة بس... عن إذنكم يا شباب!’
صعد، بشكل ما، إلى ظهر حماره، وكاد أن يهوي من الجهة الأخرى لولا أن أمسك برسن الحيوان المسكين بشدة، فصرخ الأخير بألم وانتفض، راكلاً حوافره في الهواء. ابتعد الجنديان في خوف. استوى أبو السعد على ظهر الحمار، مطبطباً عليه بأسف، وربّت بيده الأخرى على الجعبة المعلقة، كي يطمئن إلى وجود بقية الغنيمة معه. وبصوت مهزوز قليلاً، صاح: ‘حاااااا...’
تحرك الحمار ببطء، والجنديان لا يزالان ينظران إليه في بلاهة.