يعتبر كتاب (الكلمات والأشياء) ليس أهم ما كتب ميشيل فوكو وعبّر عن فلسفته فحسب، ولكنه كذلك أفضل شاهد على قدرة العقل في إعادة اكتشاف أنظمته المعرفية، ومراجعتها لأول مرة في تاريخ الفلسفة الحديثة خارج الأطر الإيديولوجية التي اعتادت أن تقنعها وتستخدمها.
قراءة كتاب الكلمات والاشياء
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
تلك هي العتبة الملتبسة التي يقف عليها فكر الحداثة البعدية. وكل ما يمكن القول عن هذه العتبة في المرحلة الراهنة من تطور البحث هو أن ثمة مناخاً خارجانياً يحيط بالتفكير الفلسفي الذي يحوم حول دائرة المفاهيم المستجدَّة للحداثة البعدية، وأنه آخذ بالخروج عن قوالبه، وهو يتحسس سُبْلَ التهوية. وإذا كان لا بُدَّ من تقدير سريع لدور فوكو هنا، فهو أنه جاوز العتبة. أخرج الفكر الحداثوي البعدي من إطار الثورة الأولى: نيتشه، ومن مشروع بتذكير نسيان الكينونة: هيدغر، إلى ممارسة موضوعانية وعيانية لما يمكن أن تعنيه الحداثة البعدية عندما تغدو أركيولوجيا ـ جينالوجيا، أو بالعكس. أي إن فوكو حوّل فكر الحداثة البعدية إلى منهجـية مضادة لذاتها تماماً. على أن يفهم هنا موقع التضاد باعتبار أن الأركيولوجيا وإن سلكت مسلك المنهج إلَّا أنها تنكر على ذاتها كل المواصفات التقليدية التي تضفى عادةً على المنهج وتوصف به آلياته. إنه منهج أبرز ـ لم يصف ولم يحلل ولم يؤول ـ آليات التمفصل الخطابي لتشابكيات إرادتَيْ القوة والمعرفة عبر كل ما يصح وثيقة ودعامةَ من كتابات وسلوكيات، كل ما يمكن أن يعتبر بمثابة الأنصاب القائمة في/والشاهدة على تقاطع الكلمات والأشياء.
ومن المهم هنا التشديد على صفة الإبراز في ممارسة الجينالوجيا ـ الأركيولوجيا، لفصلها عن أفعال التحليل والتأويل التي ألفتها المنهجيات الفلسفية، والعقلانية بصفة عامة، ومنها الرياضية والطبيعية، لأن الإبراز يعني عدم مبارحة ساحة الممارسة الأركيولوجية والإتيان بكل ما تحويه حفرياتُها دون إضافة فوقية أو جانبية. فالفلسفة إذن تختلف أركيولوجياً مع/وعن ذاتها. وتدخل الكتابة الفلسفية نفسها في منعطف الخارجانية، أي إنها تغدو على مسافة من كل عاداتها الكتابية السابقة. وبصورة ما تغدو هذه الكتابة شفافيةً. أي أنها قادرة دوماً على تشفيف أدواتها التي تستخدمها هي ذاتها في تشفيف موضوعاتها. فأنْ تكون الكتابة شافّة عن نفسها فيما تكتبه عن سواها فذلك سيؤدي حتماً إلى شق الحواجز واختراقها أمام النص المختلف.
ذلك ما يجعل كتابة المتناهي متناهية في ذاتها. إنها نوع من كتابة المفرد بفردانيته. وهذا بالطبع يتطلب ليس التغيير على صعيد السرد الفلسفي أو مناهج البرهنة فحسب، ولكنه يستلزم تزييح اللغة نفسها. فهنا لا بد أن يجري انتزاع الكلمات من كل أثوابها المعتادة، ووضعها ثانية في العراء خارج قوالبها، وحرمان الملفوظ من مُتَّكَئِه الدلالي. إذ جرى النص المألوف على جرف الملفوظات دوماً في تيارات دلالاتها المألوفة، بحيث لا تفقد هذه الملفوظات مفرداتها الكلامية، بل حتى الصوتية نفسها. ذلك أن الدلالة المألوفة في النص التقليدي إنما تذهب بكل ماديّة الملفوظ، يفقد تصويته ـ أصواته، ويكسرُ التصويتَ الآخر الآتي من لهجة الدلالة نفسها ونبراتها الموظفة كلياً، سلفاً، في خدمة السلطة الدلالية.
لكن كل ذلك لا يعني أبداً الدخول في نص الجينالوجيا ـ الأركيولوجيا دون أن يكون هذا الدخول نفسه تورطاً، له ذات طبيعة موضوعه، أي تورطاً جينالوجياً أركيولوجياً في آنٍ واحد. فمن أجل كشف إرادة القوة العاملة على استبعاد كل ما يخالفها، على كبت التناهي وتسليط الصيغ المؤسسية وجَمْعَنَة كل ما لا يقبل الجمعنة، وإقامة أماكن لحصر وحصار الاختلاف والمغايرة وتوحيده بنماذج الشذوذ والانحراف، والمرض والجنون والإدانة الخلفية ـ القانونية؛ إن كل تلك الفعالية لإرادة القوة قد اكتست بالخطابات المعرفية والعلموية وتقنَّعت وراء أشكال التنظيمات والإلزامات والتراتبيات التي تسود كل قطاع من حياة الفرد والجماعة. غير أن هذه الإرادة في القوة ليس لها مراكز محددة. وهي ليست كلها داخلة في إطار الرفض أو القبول. لا يمكن القول إن تضافر القوة والمعرفة يتركز في طبقة أو سلطة معينة. فإن انبثات هذا التضافر في مختلف الفعاليات الاجتماعية، يبعثر كل تمثيل أو منهج يريد مركزتها في بؤر محددة الانتشار، لا يأخذ اتجاهاً عمودياً من أعلى إلى أسفل، طبقياً مثلاً؛ ولا من جهة إلى أخرى أفقياً. فإنه بالأحرى موزع ومنبثّ ومتشابك بحيث لا يمكن أخذه على حين غفلة وهو متلبّس في حيز معين. ولا شك أن السلطات المباشرة المتجسدة في العلاقات السياسية والقانونية وسواها قد تقدم عينات مضخمة عن تجسيدات محددة لإرادة القوة التي قد لا تحتاج حتى إلى الخطابات الأيديولوجية أو التبريرية لتقنع ممارساتها العملية بها. لكن ذلك لا يشكل سوى وجوهٍ وحالات من تجسيد ونمذجة السلطة، في حين أن النسيج الثقافي والحقوقي والاقتصادي والاجتماعي الفردي بشكل عام، إنما يقوم على خيوط متشابكة ومتناسلة بعضها من بعض، لا تمثل حقاً إرادتَيْ القوة والمعرفة، بقدر ما تتموضع ترميزاتٌ عنهما خلال هذا النسيج، عن تشابكهما معاً وتنافرهما، وليس تعاضدهما دوماً؛ وبالتالي إن التحفير الأركيولوجي لا يستطيع أن يحدد مساحات نشاطاته مقدماً إلّا فيما يكون التحفير مُبْرِزاً لأسراره، وليس مؤوِّلاً لها ولا مؤدلجاً. فالتحفير لا يجد الشيء قبل أن يعثر عليه. وهو بالتالي ليس مضطراً أبداً لحمل اكتشافات الآخرين ودفنها في الأرض، ثم محاولة الحفر عنها واستخراجها، وكأنها مكتشفات جديدة. كما أنه ليس للتحفير أدوات متميزة عن أخرى إلَّا بالقدر الذي يمكن أن تؤدي إلى كشف المطمور، وقراءة الآلية التي يتم بها تمفصل الانكشاف والانطمار وترميزات كل هذه الآليات في خطابات القول والفعل والتنظيم التي تشتغل عليها. فالحيز التحفيري ليس جغرافياً وليس جهوياً، ولكنه مبعثر المراكز والانتشارات والانبثاثات بحيث يدفع كل لحظة إلى تغيير استراتيجية التحفير بالقدر الذي تتغير فيه التكتيكات، واستخداماتها التقنوية والفكروية نفسها.
* * *
والحقيقة إذا كنا نريد أن نرى في الجينالوجيا ـ الأركيولوجيا منهجاً للحداثة البعدية، بكل هذه التمييزات التي تفرقه عمّا ألفناه من خصائص المنهج الكلاسية، فإنه يمكننا أن نلحظ أهمية البعد الجهوي المزدوج الذي يمكن أن يتضمنه. فهو من حيث كونه جينالوجيا فإنه لا يهمل عامل الزمن بل يلتقيه عبر فعالية التكوين. إذ إنَّ استعادة تاريخ الإبستيمية إنما يجعلنا نقف على نمطها الخاص في التكوين. وفي الوقت ذاته فإن المنهج من حيث إنه أركيولوجيا يستكشف الطبقة الحفرية التي تقوم عليها هذه الإبستيمية في موضعها. فالعمق الزمني الذي يوفره تفكيك تاريخ التكوين يناظره ويتكامل معه عمق الحفرية في تربتها الخاصة. فهذا العمق الآخر المكاني يضمن للإبستيمية انظهار محايثتها الملتحمة كحيز من داخل/ومع شبكة ذاتها الراهنة المؤلفة من تضافر وتنافر إرادَتيْ القوة والمعرفة في لحظة تاريخية معطاة. فالعمق التحفيري سواء اتجه إلى عمق التكوين التاريخي للإبستيمية، أو إلى شبكية الحيز الموضعي والانتشاري لموقع الإبستيمية من بقية الأنساق المعرفية في هذه الشبكية، إنما يفرض نظامه الخاص. فهو المنوط به وحده أن يقع: مع الشيء. لا قبله ولا تحته. ذلك أن أهم ما حققته القطيعات المعرفية الكبرى بعد انتهاء العصر الكلاسي والانعطاف الجذري نحو الحداثة البعدية الذي انطلق من القرن التاسع عشر ـ ولا يزال يتلمس طريقه وتكامل أهدافه حتى أيامنا هذه ـ هو أن حركة الفكر لم تعد تمضي من تصورات أو تمثيلات الأشياء إلى الأشياء ثم لتعود وتستقر في الذهن، بل إن هذه الحركة غدت انزياحاً مادياً، بمعنى أنه يحدث انتقال من التمثيل إلى الشيء للاستقرار فيه، في الشيء، وليس لمغادرته فيما بعد والالتجاء من جديد إلى تمثيله في الذهن [أو العقل بمعنى Raison، كما عند كانط]. وهذا بالتالي ما يحقق خارجانية الفكر، إذ يبقى عند موضوعاته، لا يبارحها، لا يخترع من عنده أية أنظمة لها، تحاول استيعابها وإغراقها في المنظومات ذات الطبيعة التصنيفية والتراتبية، مهما كانت الأشكال والمراتب، والنماذج والتفريعات، التي تبنيها هذه الطبيعةُ، مشتقةً كلها من مبدأ الانسجام والتماسك الداخلي، والتشميل الكلياني لمختلف العناصر.