أنت هنا

قراءة كتاب الآخرون مازالوا يمرون

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الآخرون مازالوا يمرون

الآخرون مازالوا يمرون

المجموعة القصصية "الآخرون مازالوا يمرون"؛ الصادرة عن دار الفارابي، للكاتبة السعودية د. زكية نجم، نقرأ منها:
- غداً سيأتي العيد صامتاً.. ويخرس زئيرُ الحرب أنشودةً كنتُ أغنيها..

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

الجوع والظلال

- جائع..

نطقتها عيناه ووميض الدمع يرتجف كخيط ضوء واهن على جبهة الظلام المريع.. جسده الأسمر الضئيل يتكوّر تحت بقايا لحافٍ قاسٍ.. يده تقبض على بطنه الخاوي الملتصق بالأرض.. يتأمل جسد أمه الكبير وصدرها يعلو ويهبط في بطء.. يتذكر حديثها الليلي المعتاد:
- الجوع كافر يا ولدي والنوم سلطان.. عندما تجوع حاول أن تنام.. نم يا ولدي عندما تجوع.. نم..
ينقلب على جنبه الآخر.. يغمضُ عينيه:
- شرير أنت أيها الجوع الكافر.. وأنت أيها النوم السلطان.. لماذا لا تبدو قوياً الآن وتحملني معك!
تنكمش أطرافه الباردة..
- يخذلني ذلك السلطان يا أماه لا يريد أن يحملني مثلكِ حيث لا يؤلمني هذا الكافر.
ذراعاه تفترشان الأرض في إنهاك.. دمعة ساخنة تنحدر على خدّه.. طنينٌ حاد يخترق مسافة السكون إلى أذنيه.. بصره يشرئبُّ نحو الأعلى.. خيوطٌ من الضوء تمتدّ عبر كوةٍ في السقف.. تسبح في فضاء الكوخ الحقير.. حشراتٌ صغيرةٌ تتكوّم حول بؤرة الضوء.. أجنحتها تنهمكُ في نوبةٍ من الطنين.. ذهولٌ عميق يطفو فوق قسماته الشاحبة..
- حشراتٌ خضراء.. لا يختلف لونها كثيراً عن ذلك العشب اللذيذ الذي أجده مُفترشاً بأذرِعته القصيرة المدببة تربة الحقول في طرف القرية.. ليتها تقترب أكثر.. ربما يكون طعمها شبيهاً به!
يستلقي من جديد على بطنه.. يلتصق بالأرض.. أمعاؤه لا تكف عن الضجيج.
- لابدّ من إمساكها حالما تقترب كي تصبح بعدها سريعاً في قبضتي!
يتنبّه إلى يده الناحلة الممتدة وحدها في فضاء الظلام.. أصابعه تتقوّس.. كأنها تقبض على تلك الحشرات المتراقصة في الهواء أمام ناظريه.. كأن المسافة بينهما لا شيء.. ترتخي ذراعه في وهن.. تعود تلتصق بالأرض..عيناه المغمضتان بلا جدوى تعاودان التحديق.. الضوء المنعكس على الجدار يستطيل.. يصبح طويلاً جداً.. يذكِّره بقامةٍ مديدةٍ لطالما أحب التعلق بها يوم أن كانت قدماه تتهجّيان أبجديات المشي.
- أبي ليتك ترجع.. قلت لي إنك حينما تعود ستحضر لي حذاءً جميلاً ألعب به مع الرفاق.. إنني لن أكون حافياً دون حذاء وإننا جميعاً سوف نصبح سعداء.
ينْقبض صدره.. تتسارع زفراته..
- ماذا سأفعل بالحذاء الجميل وهو ليس طعاماً يطرد جوعي.. أنا أُريد أبي لا الحذاء.. أريده أن يعود لأنه حينما يكون هنا لا يعرف بيتنا وجه الجوع.
تتابع نظراته الأجنحة الخضراء وهي تتراقص.. الشرود يمتطي سحنته السمراء..
- وجوه رفاقي تغيّرت.. أصبحت ملامحها كالجدران.. تصدمني حالما أحاول الدخول معهم دائرة اللعب.. ألأنهم كبار وأنا صغير؟ لكنهم لم يقولوا لي يوماً.. أنت صغير يا حمد.. هل لأني بلا حذاء؟ ولكننا كنا نلعب أحياناً دون أحذية.. لأن لهم آباء أما أنا فليس لي أب يجلب الحذاء.
بؤس عميق ينسكب فوق ملامحه..
- الرجال وحدهم هم الذين يستطيعون.. لا بد أن أكون مثلهم.. أسير في الشوارع وتشير إليّ الأيدي.. هو ذا حمد أصبح رجلاً.. لديه مالٌ في جيبه وحذاءٌ في قدمه ويعود إلى أمّه يحملُ خبزاً.. رجلٌ تشهد له الطرقات وعيون الرفاق الذاهلة.. لا تهطل عيناه دموعاً ولا يُبكيه الجوع بعد اليوم.
ينهض قاعداً.. يحبو نحو البقعة المضيئة.. يحاول الوقوف.. تخذله قواه.. يداه تتسلقان قوائم طاولة عتيقة.. يقف.. يخيل إليه أن شيئاً ما يدبٌّ في أجزائه.. ينخر عظامه.. تتأرجح نظراته في محيط الكوخ.. شبح أمِّه النائم في الزاوية البعيدة لا تكاد ملامحه تتضح.. يظل بصره مشدوداً في انبهار إلى ظله الممتدّ على الجدار..
- هذا أنت يا حمد.. أصبحت طويلاً حتى السقف! أصبحتْ لك قامة رجل أكثر علواً من قامة أبيك.. في الصباح تستيقظ أمّك.. وتراك بعينيها بطلاً عريض المنكبين.. تماماً كشيخ القرية!
الحشرات الخضراء مازالت تتراقص في البقعة المضيئة.. طنينها الحاد لم يعد يصل إلى أذنيه.. لم يعد يسمع سوى طرقات قلبه الجسور.. ينهار ظلّه فجأة.. لم تُحدِث سقطته ضجيجاً.. يصبح جزءاً من سكون المكان.. وبالداخل يكتسي ذهنه الصغير خلوّاً أخيراً لأحلام رجل.

الصفحات