أنت هنا

قراءة كتاب البيرق

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
البيرق

البيرق

المجموعة القصصية "البيرق - قصص في مهب الريح"؛ الصادرة عن دار الفارابي، للكاتب الكويتي بسام المسلّم،"كانوا يأتون إلى البراحة وبأيديهم مشاعل الزيت.

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
الصفحة رقم: 1

ليلة مع عروس البحر

طلَع وجهها من البحر. يتبعه جسدها يتلألأ بالنّدى. في قبضتيه الحبل يتَحرّك.. يتلبّط مثل سَمكةٍ تُنازع. رويداً يهدأ اضطرابه.. يتراخى.. بين يديْه يسكن الحبل تماماً.
***
من البدر ينحدر بحرٌ فضّي. يملأ الليل. يفيض منه على «الفِرجان»[2] يعبِّئُها. يتدفّق عبر الكوّة منتشراً في الحجرة ، ليغمر وجهها الغافي. نائمةً بقربي، أدنو منها. فينشقّ الفراش عن ذراعين مبلّلتين ترتفعان في الظلام. تحولان بيني وبينها. كفّان يمتدّان إلى عنقي. يخنقاني. بالكاد أتخلّص منهما. وأنأى عنها بجانبي.
ظلُّ الجدار يصطدم بناظري. يفتح أجفانه السّود. تنبثق منه مئة عينٍ حمراء تحاصرني. ترميني بشررها. تحت الدثار أتكوّم هرباً.
القمر يرتفع من زاوية الكوّة. تهبّ نسمةٌ رطبة. تثور رائحة ماء الورد ممتزجاً بعرقها. أقترب مرّةً أخرى لينتصب لي وجهه الأزرق دونها. وعيناه جمرتان. أصدّ عنهما إلى السّقف المظلم فيخرّ عليّ أذرعاً أخطبوطيّة. تكبّلني.. تقتلعني من فراشي. أقوم ذليلاً ألبس ثيابي وأخرج.. إلى الأزقّة المعتمة أتسلّل. ومنها أسري إلى من يعرف سرّي. إلى البحر.
على الأرض الباردة أقعد. الزّبد الفضيّ يصفع قدمي ويذوب غائراً في الرمال. الماء فاتر كعادته ليلاً مثل جسد ميّت. وأنا ألوذ بالبحر في الليل حينما يسكن كل شيء. أصغي إليه.. يحمل إليّ صوت «جاسم».
***
ثلاثةً كنّا. أقدم ما نذكر رائحة البحر وهدير الموج وهو يتهشّم على الساحل. بمحاذاته نقتفي أثر أمهاتنا الثلاث. بأقدامهنّ يطبَعن رسْماً طريّاً على امتداد الشاطئ المتعرّج. نسير على آثارهنّ متلذّذين بوخز القواقع والصّدفات من تَحتنا. وعلى رأس كلّ واحدةٍ منهنّ صرّة معقودة، تتمايل أمامنا بعيداً تحت شمس الضُّحَى كسراب الهوادج على ظهر الذّلول. يتّخذن من الحجارة مقاعد. يحللن عقد صررهن. ويغسلن بالبحر حملهنّ.
أمّا أنا وجاسم فنلقي بثوبيْنا على الرمال الرطبة. و«لولْوَة» مثلنا تتجرّد إلّا من قطعةٍ تسترها. معاً نغمس أجسادنا البضّة في البحر. نرشّ بعضنا بِمائه. نتذوّق ملحه العالق بالشّفاه. ومن بين الرّذاذ المتراشق نلمح وجوه أمهاتنا منهمكاتٍ بعملهنّ. أعينهنّ تراقبنا بنظراتٍ متردّدة. يبتسمن لنجوى بينهنّ. ومن نظراتِهنّ نعرف أنّ الحديث يدور حولنا لمّا يطْلِقن قهقهاتٍ خجولة، تصافح أصداؤها ضحكة نورسٍ أبيض، أشرع جناحيه فوق أمواجٍ تتهادى من بعيد.
لم أزل أذكر ذاك النهار الذي أتتْ فيه زوجة خالي إلى السِّيف من غير لولْوَة. حينما سأل جاسم عنها أجابته أمها بابتسامة غابتْ معها عيناها في ثنايا وجهها السمين:
ـ «البنيّه خلاص كبرت.. صارت مَــرَه!».
لم نفقه كلامها، فقط سبحنا من دونِها. في ذلك اليوم لم نسمع نورساً يضحك. الْتفَتُّ بصمتٍ مع جاسم نحو البعيد فشعرتُ معه أن لامتدادِ البحر وحشة. وللمرّةِ الأولى أحسستُ أنّ لِملوحته مرارة. أدركتُ أن بغياب لولْوَة لم يعد للبحر معنَى.
***
جاسم يعرف أين يجدني. مسنداً ظهري إلى جذع سدرةٍ عجوز تسلّقناها صغاراً، لمحته يركض نحوي وبيده غترته. أنفاسه المتلاحقة زاحَمَتْ كلماته:
«النّوخذة[3] «بوسليمان» بالمَرسى.. عزم على الدشَّة![4]».
قمتُ معه لَمّا أخذ بيدي. في انطلاقنا إلى المرفأ رأيتُ النوخذة يقْبلُني غِيصاً[5]. من الأعماق أعود إلى الشاطئ بيدي عقْدٌ مبلّل من اللؤلؤ أمْهر به جيدها. لكنه حلمٌ سرعان ما تلاشى حينما تفحّصني بوسليمان بنظراته الثّاقبة. وأشاح عني بوجهه:
«أخاف على بدنك الهزيل طولَ الغطس! تدخل السنة معنا سيباً»[6].
برقٌ خاطف التمع بداخلي مسّ أشرعة آمالي. رجوْته. نَهرَني بصرامة النوخذة. فأطرقْت. أغمضتُ عينيّ على لولْوَة.. وتقبّلت الأمر على مضض.

الصفحات