قراءة كتاب الزحف المقدس

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
الزحف المقدس

الزحف المقدس

كتاب "الزحف المقدس - مظاهرات التنحّي، وتشكّل عبادة ناصر"؛ يقول الكاتب والباحث شريف يونس، في مقدمة كتابه:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
المؤلف:
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 8

كانت أحداث مارس 1954 كاشفة عن طبيعة السلطة وإيديولوجيتها، فقد كانت مواجهة بين فكرة حكم الشعب عن طريق ممثليه المنتخبين، تدافع عنها القوى المعادية لحكم الضباط والمنادية بالديمقراطية، وفكرة الحكم بالنيابة عن الشعب ممثّلة في طرح الضبّاط. وفي ذروة المواجهة، وضع عبد الناصر الفكرة بشكل بالغ الوضوح. في مساء التاسع من مارس عام 1954، كانت المواجهة محتدمة، والمشهد يبدو وكأنّه قد يكون بداية النهاية لحكم الضبّاط (برغم أنّ قرارات 5 مارس التي وعدت بالديمقراطية وصدرت تحت ضغط انقسام الجيش لم تحدد في الواقع كيفية تشكيل الجمعية التأسيسية التي ستضع الدستور المقبل ولم تنصّ صراحة على عودة الضبّاط للثكنات). في هذه اللحظة وقف عبد الناصر، رئيس الوزراء آنذاك، في وجود محمد نجيب، رئيس الجمهورية المعيَّن، وعدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة، خطيبًا في ضباط الجيش في ناديهم، وأعلن تمرُّده الصريح على قرارات 5 مارس قائلًا:
أنتم يا رجال الجيش، يا من قمتم في 23 يوليو... لتخلّصوا الشعب من آلامه ولتحقّقوا له آماله... ستوقفون الرجعية في مكانها... طالما تألّم الشعب وطالما همس الشعب وطالما صرخ الشعب، وطالما تاه هذا الشعب بين المبادئ المختلفة وبين الأهداف المختلفة... طالما خدعوا هذا الشعب في الماضي... أؤمن أنّ المبادئ ستنتصر وأنّ المثل العليا ستنتصر... طالما كنتم تؤمنون بالمبادئ وتؤمنون بالمُثل... وطالما لم يغرّر بكم كما يريدون أن يغرّروا بالشعب.
لا نجد هنا ولو محاولة من عبد الناصر لادّعاء أنّه والضبّاط المؤيّدين له يمثّلون الشعب بوصفه جماعة بشرية محدّدة عن طريق تفويض يتيح لهم تمثيله رسميًّا، وليس باعتبارهم منتخبين بأيّ معنى من معاني الانتخاب، ولا حتّى ادّعى الحصول على تأييد ضمني، بل ثمة توجّس من أنّ الشعب قد «يُغَرَّر به»، بمعنى أن يرفض حكمهم. كذلك لم يطرح عبد الناصر على نفسه وزملائه مهمّة اكتساب ثقة الشعب والحصول على تفويض كهذا، أو استعادة ثقة مفقودة، بل طرح تأكيدًا من طرف واحد بأنّه يعتبر نفسه والضبّاط المؤيّدين له أصدق تمثيلًا للشعب من كلّ الأطراف الأخرى، وعلق «انتصار المبادئ والمثل»، وهي فكرة غامضة بحدّ ذاتها، على أن يظلّ الضبّاط وحدهم مؤمنين بها. فسواء تمّ «التغرير» بالشعب أم لا فإنّ عدم انقسام الجيش كافٍ بحدّ ذاته لتحقيق «حكم الشعب».
يعني هذا أنّ فكرة «الجيش» (الواقع تحت سيطرة الضباط الأحرار) عن الشعب ومصالحه هي بحدّ ذاتها معيار مصلحة الشعب وأساس سيادته. أمّا القطاعات التي ترفضها، فلا تمثّل الشعب مهما اتّسعت. فهذه القطاعات من الشعب، اتّسعت أو تضاءلت، ليست إلّا قطاعات مخدوعة عن مصالحها نفسها. وبالتالي يظلّ الضبّاط وهم يتحرّكون ضدّ القوى السياسية الفاعلة التي أثبتت ثقلها الجماهيري محتفظين في رأي أنفسهم بفكرة تمثيل الشعب، بوصفه كتلة واحدة متّحدة المصالح، تتحقّق مصالحها بقدر ما ينجح الضبّاط في الوصاية عليها.
من ناحية أولى، تقوم هذه الفكرة بأكملها على افتراض أنّ ثمة كيانًا سياسيًّا موحدًا متجانسًا يُسَمَّى الشعب حالًّا مباشرة في إرادة موحّدة، أو يمكن أن تعبّر عنه إرادة محدّدة، لا يخرج عنها إلّا خوارج على الشعب. هذا الافتراض خيال سياسي. ليس فقط لأنّ الشعب ينقسم إلى طبقات وفئات اجتماعية مختلفة أو متصادمة، وإلى ريفيين ومدينيين، وأزهريين وجامعيين... إلخ، لكلّ منها رؤيته وثقافته ومصالحه، ولكن أيضًا لأنّ فكرة الصالح العام نفسها تنقسم وفقًا لتصوّرات هذه الفئات المختلفة، بما يستحيل معه اختزالها إلى مفهوم «الشعب» ككتلة مصمتة كما طرحه عبد الناصر هنا، كأساس لافتراض أنّ هذه الكتلة الواحدة لها تعبير موحّد واحد «صحيح» عن مصالحها الواحدة، أي التعبير الذي ينطق به الضباط تحديدًا كما رأينا.
من ناحية ثانية، كان هذا التصوّر قد تبلور في شعار «الزحف المقدس»، الذي ظهر منذ أواخر 1953 في مقالات «فلسفة الثورة». وهو شعار يضع مثلًا أعلى مؤدّاه أن يصبح السكان «حشودًا» موحّدة الوجهة والهدف، تسير خلف طليعة مُسَلَّم بطليعيتها سلفًا، متقبلة للوصاية. وسوف تعمل سياسة الضبّاط من بعد على خلق هذا النوع من الشعب على ما سنرى. بهذا المنطق، تنفصل مصالح الشعب السياسية عن رؤية الشعب نفسه. فهي تتحقّق بإقامة سلطة تباشر هذه المصالح بصرف النظر عن رضا الشعب أو عدم رضاه. بعبارة أخرى، يعفي هذا التصوّر الضباط من الحاجة لإثبات رضا الشعب المعني عن سياساتهم.

الصفحات