قراءة كتاب ملاحظات نحو تعريف الثقافة

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
ملاحظات نحو تعريف الثقافة

ملاحظات نحو تعريف الثقافة

كتاب " ملاحظات نحو تعريف الثقافة " ، تأليف ت. س. إليوت ترجمه إلى العربية د.

تقييمك:
5
Average: 5 (1 vote)
المؤلف:
دار النشر: دار التنوير
الصفحة رقم: 10

الفصل الثاني

الطبقة والصفوة

قد يبدو مما سبق أن قررنا في الفصل السابق عن مستويات الثقافة، أنَّ أرقى أنماط المجتمعات البدائية تتسم بمزيد من التمايز في الوظيفة بين أعضائها إذا قورنت بالأنماط الأدنى(16). وإذا مضينا علوَّا في المراحل فإننا نجد أن بعض الوظائف تعدُّ أشرف من بعضها الآخر، ويساعد هذا التقسيم على نمو الطبقات، حيث يُمنح الشخص مزيدًا من الشرف ومزيدًا من الامتياز، لا لمجرد كونه قائمًا بوظيفة، بل لكونه عضوًا في طبقة. وتكون للطبقة نفسها وظيفة، وهي رعاية ذلك القسم من ثقافة المجتمع الكليّة، الذي يتعلق بتلك الوظيفة. ويجب أن نحاول أن نبقي على ذكر أن هذه الرعاية لمستوى معين من الثقافة هي ـ في مجتمع سليم ـ مصلحة للمجتمع ككل لا للطبقة التي ترعاه فحسب. والتنبّه لهذه الحقيقة جدير بأن يمنعنا من افتراض أن ثقافة طبقة «عليا» هي ناقلة بالنسبة إلى المجتمع ككل، أو إلى الأغلبية، ومن افتراض أنها شيء ينبغي أن تشارك فيه جميع الطبقات الأخرى على السواء، كما أنه جدير بأن يذكِّر الطبقة «العليا»، بقدر ما تكون مثل هذه الطبقة موجودة، أن بقاء الثقافة التي تعنيها بوجه خاص يتوقف على سلامة ثقافة الشعب.

وقد أصبح من الأقوال السائرة في الفكر المعاصر أنَّ مجتمعًا هذه صورته ليس بالنمط الأعلى الذي يمكننا أن نطمح إليه، بل إنَّ من طبائع الأشياء بالنسبة إلى مجتمع تقدميّ أن يتغلب على هذه الفوارق في وقتٍ ما، وأنه في قوة توجيهنا الواعي أيضًا أن يوجِد مجتمعًا بلا طبقات، ومن ثم يصبح ذلك واجبًا علينا أن نقوم به إلّا أنه مع شيوع القول بأن الطبقة ـ بأي معنى يحتفظ بارتباطات الماضي ـ سوف تختفي، فثمة بعض العقول الأكثر تقدما في الوقت الحاضر ترى أنه يجب الاعتراف ببعض الاختلافات بين الأفراد في الصفات، وأنَّ الأفراد الممتازين يجب أن تتشكل منهم جماعات مناسبة، تتمتع بسلطات مناسبة، وقد تتمتع أيضًا بأنواعٍ شتى من المكافآت وعلامات التشريف وتتولى هذه الجماعات المشكلة من أفراد ذوي أهلية للحكم والإدارة توجيه الحياة العامة للأمة، ويقال عن الأفراد الذين تتألف منهم أنهم «قادة» ويكون هناك جماعات تُعنى بالفن، وجماعات تعنى بالعلم، وجماعات تعنى بالفلسفة، كما تكون هناك جماعات تتألف من رجال عَمل: وجميع هذه الجماعات هي ما نسميه بالصفوة.

وواضح أنه إذا كانت الحالة الحاضرة للمجتمع يوجد فيها ارتباط اختياري بين الأفراد المتشابهين في منازع التفكير، وارتباط مؤسَّسٌ على المصالح المادية المشتركة، أو على الاشتراك في العمل أو المهنة، فإن جماعات الصفوة في المستقبل ستختلف عن كل الجماعات التي نعرفها من الصفوة في أمر هام: وهو أنها ستخلف طبقات الماضي، وستنهض بوظائفها الإيجابية. وهذا التحول لا يُصَرَّح به دائمًا. فمن الفلاسفة من ينظرون إلى الفوارق الطبقية على أنها أمر لا يحتمل، ومنهم من ينظرون إليها على أنها سائرة إلى الموت فقط. وهؤلاء الأخيرون قد يتجاهلون الطبقة ـ في يسر ـ حين يخطِّطون لمجتمع تحكمه الصفوة، ويقولون: «إنَّ جماعات الصفوة سوف تُسْتَمد من جميع قطاعات المجتمع». ولكن قد يبدو أنه مع إتقان وسائل تعرّف الأفراد الذين سيكوِّنون طوائف الصفوة في سن مبكرة، وتربيتهم ليقوموا بدورهم المستقبلي، واستقرارهم في مراكز السلطة، سوف تصبح كل المميزات الطبقية السابقة مجرد ظل أو أثر، ويكون المميز الاجتماعي الوحيد للمنزلة قائمًا بين جماعات الصفوة وبين سائر المجتمع، إلّا أن يوجد ثمة نظام للتفاضل والمكانة بين شتى طوائف الصفوة نفسها، وهو أمر ممكن الحدوث.

ومهما تكن الصورة التي يوضع فيها مذهب الصفوة معتدلة غير مستغربة، فإنه ينطوي على تغيير جذري للمجتمع. فهو في الظاهر لا يرمي إلى أكثر مما يجب أن نرغب فيه جميعًا: أي إلى أن تُشغل جميع المراكز في المجتمع بأولئك الذين هم أكثر صلاحية لأداء وظائف مراكزهم. فكلنا قد لاحظنا أفرادًا يتولون مراكز في الحياة لا تؤهلهم لها شخصيتهم ولا عقليتهم، وإنما وضعوا فيها بفضل تعليمهم الأسمى أو مولدهم أو قرابتهم. وما من رجل شريف إلا ويثيره مثل هذا المنظر. ولكن مذهب الصفوة ينطوي على أشياء أكثر بكثير من علاج هذا الظلم. إنه يضع نظرة ذرِّية للمجتمع.

والفيلسوف الذي تستحق آراؤه عن موضوع الصفوة أقصى الاهتمام لقيمتها في ذاتها ولما لها من تأثير هو الأستاذ الراحل الدكتور كارل مانهايم. بل إنَّ الدكتور مانهايم هو الذي رسم خطوط كلمة «الصفوة» في هذه البلاد. ويجب أن أنبه إلى أن وصف الدكتور مانهايم للثقافة يختلف عن الوصف الذي قدمته في الفصل السابق من هذه المقالة. فهو يقول في («الإنسان والمجتمع» ص81):

«إنَّ البحث الاجتماعي عن الثقافة في مجتمعٍ حرٍ يجب أن يبدأ بحياة أولئك الذين يخلقون الثقافة، أي المثقفين ومكانهم في المجتمع ككل».

الصفحات