كتاب " ليل تشيلي " ، تأليف روبرتو بولانيو ترجمه إلى العربية عبد السلام باشا ، والذي صدر عن دار التنوير عام 2014 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
قراءة كتاب ليل تشيلي
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

ليل تشيلي
وهو مؤلِّف قصائد دينية رائعة. ربّما سأجد «مونتويا ايثاجيري»، كاتب صاحب أسلوب رقيق في النثريات القصيرة. وربّما «بالدوميرو ليثاميندي ايراثوريث» مؤرّخ شهير من الثُّقات. كان الثلاثة من أصدقاء فارويل. لكن في الواقع كان فارويل يمتلك الكثير من الأصدقاء، ومن الأعداء، بحيث يصبح من العبث محاولة التخمين في هذا الصدد. عندما وصل اليوم الموعود انطلقت من المحطّة بروح منقبضة وفي نفس الوقت مستعدًّا لأيِّ حادثٍ عاثرٍ يرغب الربُّ بحكمته في امتحاني به. وكأنَّه اليوم، (بل الأفضل ليتَه اليوم) أتذكَّر الريف التشيلي والبقراتِ التشيليةَ ببقعِها السوداء (أو البيضاء، على حسب) ترعى بجوار خطِّ السكّة الحديد. أحيانًا كانت هزَّات القطار تحملني على النعاس. أغمضت عينيَّ. أغمضتُهما كما أغمضهما الآن. لكنّني كنتُ أفتحهما فجأة فأجد طبيعة مختلفة. أحيانًا مبهجة وأحيانًا كئيبة. عندما وصل القطار إلى (شيان) أخذت تاكسيًا أنزلني في قرية اسمُها «قيراكين». في مكان يبدو الميدان الرئيسي، (لا أجرؤ على مقارنته بميدان السلاح في العاصمة) ولا يوجد فيه أثر للبشر. دفعت لسائق التاكسي، نزلت بحقيبتي ورأيتُ المشهد الذي يحيط بي. عندما التفتُّ مرَّة أخرى أنوي سؤالَ السائق عن شيء أو الصعود للتاكسي مرّة أخرى وبدء رحلة عودة مبكِّرة إلى «شيان» ثم إلى سانتياجو، ابتعدت السيارة فجأة. كأنَّ تلك الوحشة المنذرة بالخطر قد أيقظت في السائق مخاوف قديمة. لبرهةٍ شعرتُ أيضًا بالخوف. لا بدَّ أنَّني كنتُ أبدو مخلوقًا تعِسًا أثناء وقوفي في هذا الخلاء بحقيبتي من أيّام معهد اللاهوت ويدي ممسكة بـ«مختارات» فارويل. من خلف أكمَةٍ، طارت بعض الطيور. يبدو أنَّها كانت تصرخ باسم تلك القرية المعزولة، (قيراكين)، وكأنَّها تقول أيضًا: «كيين، كيين، كيين»(2). تلوت صلاةً على عَجَلٍ واتَّجهت إلى مقعدٍ خشبي لأتخذَ هيئةً تتّسق مع وضعي أو مع ما كنتُ أعتقد أنّه وضعي. يا مريمُ العذراء لا تتخلَّي عن عبدك، غمغمت أثناء صياح الطيور السوداء التي يبلغ طولها خمسةً وعشرين سنتيمترًا «كيين، كيين، كيين». يا عذراءَ لوردس لا تتخلّي عن كاهنك المسكين، غمغمت أثناء صراخ الطيور الأخرى «كيين، كيين، كيين» بصوتٍ أضعفَ. كانت بُنِّيةً أو بمعنى أدقَّ يميلُ لونُها إلى البنِّي، بصدرٍ أبيض، ويبلغ طولُها عشرة سنتيمترات. يا عذراءَ الآلام، يا عذراءَ النور، يا عذراءَ الشِعر، لا تتركي خادمَك في العراء، غمغمت أثناء عواء بضعة طيورٍ دقيقةِ الحجم ألوانُها أرجوانية وسوداء وفوشيا وصفراء وزرقاء «كيين، كيين، كيين». في نفس الوقت هبَّت فجأةً رياحٌ باردة نخرت في عظامي. حينئذٍ، رأيتُ في نهاية الشارع المُترب ما يشبه الحنطور أو عربةً مكشوفةً أو عربةً بصندوقٍ يجرُّها حصانان، أحدُهما أشهبُ والآخر عربيٌّ داكنُ اللون، متجهةً إلى مكاني. كانت تبدو في الأفق بمظهرٍ لا يمكنني إلَّا أن أصفَه بالمُدمِّر، كأنَّ تلك العربة جاءت لتحمل شخصًا إلى الجحيم. عندما أصبح يفصلُها عنِّي بضعةُ أمتار سألني السائق، وكان فلَّاحاً يرتدي قميصًا وسترةً من دون أكمام برغم البرد، سألني إن كنتُ أنا السيِّد «أوروتيا لاكروا». لم ينطق لقبي الثاني فقط بشكل خاطئ، وإنَّما الأوّل أيضًا. قلتُ: نعم، أنا مَن تبحث عنه. فنزل الفلّاح من دون أن يقول كلمة واحدة، وضع حقيبتي في الجزء الخلفي من العربة ودعاني إلى الصعود بجانبه. مرتابًا ومتصلّبًا بسبب الرياح الجليدية التي تهبط من سفح الجبل. سألته إن كان قادمًا من ضيعة السيِّد فارويل. لم آتِ من هناك، قال الفلَّاح. ألم تأتِ من «لا ـ باس»؟، سألت بينما تصطكّ أسناني. نعم من هناك أتيتُ، لكنّني لا أعرف ذلك السيِّد، قال الرجل الطيّب. وأدركت حينها ما يجب أن يكون بديهيًّا. فارويل هو اسم الشهرة لناقدنا. حاولت أن أتذكَّر اسمه. كنتُ أعرف أنَّ لقبَه الأوّل «جونثالث» لكنَّني لم أتذكَّر اللقب الثاني وخلال بضعة لحظات تحيّرتُ بين أن أقول إنَّني ضيفُ السيِّد «جونثالث» فقط أو السكوت. اخترت السكوت. اتَّكأت على سلّم العربة وأغمضت عيني. سألني الفلَّاح إن كنتُ متوعِّكًا. سمعت صوته الذي لم يكن سوى همسٍ ذهب مع الريح بسرعة، وفي تلك اللحظة تذكَّرت اللقب الثاني لفارويل: «لاماركا». أنا ضيف السيِّد «جونثالث لاماركا»، قلتُ متنهِّدًا بارتياح. السيِّد في انتظارك، قال الفلّاح. عندما خلفنا وراءنا «قيراكين» وطيورها شعرت بالانتصار. في «لا ـ باس» كان فارويل ينتظرني برفقة شاعرٍ شابٍّ لا أعرف اسمه. كانا، كلاهما، في الليفينج (صالة المعيشة) برغم أنَّ وصف تلك القاعة بصالة المعيشة يعتبر خطيئة، الأدقُّ أنَّها تشبه مكتبة وقاعة للصيد، فيها أرففٌ كثيرةٌ مليئةٌ بالموسوعات والقواميس والمقتنيات التي اشتراها فارويل خلال رحلاته إلى أوربَّا وشمال أفريقيا، فضلًا عن دستة من الرءوس المحنّطة على الأقل وبينها زوج من الأسود الأمريكية التي اصطادها والد فارويل بنفسه. كانا يتحدّثان، عن الشعر كما كان متوقّعا، وبرغم أنَّهما قطعا حوارهما عندما وصلت، إلَّا أنَّهما استأنفاه فور أن ذهبت لوضع أشيائي في غرفة بالطابق الثاني. أتذكّر أنّني آثرت الصمت على الرغم من رغبتي في المشاركة في الحوار، وكلّما دعيت بلباقة إلى الكلام. برغم اهتمامي بالنقد، كنت أكتب الشعر أيضًا، وحدست أنَّ مشاركتي في ذلك النقاش المرح الصاخب بين فارويل والشاعر الشابِّ سيصبح مثل السباحة في مياه عاصفة. أتذكّر أنّنا شربنا كونياك وأتذكَّر أنّني في لحظةٍ ما، بينما كنت أقلّب في مجلّدات مكتبة فارويل، شعرتُ أنّني تعِسٌ للغاية. من وقت لآخر كان فارويل يضحك بصخب مبالغٍ فيه. كلّما انطلق في إحدى قهقهاته، كنت أنظر بطرف عيني. كان يبدو الإله بان(3) أو باكو(4) في كهفه، أو أحد الغزاة الإسبان المتهوّرين محبوسًا في حصنه الصغير في الجنوب. على النقيض، كانت ضحكة الشاعر الشابّ رفيعة كالسلك، ومتوتّرة كالسلك. كانت ضحكتُه تتبع دائمًا ضحكة فارويل الكبيرة، كحشرةِ يعسوبٍ تطارد ثعبانًا. في لحظةٍ ما أعلن فارويل أنّنا ننتظر ضيوفًا على العشاء هذه الليلة. أحنيتُ عنقي وأرهفت سمعي، لكن مضيفَنا أراد أن يحتفظ بالمفاجأة. بعد ذلك خرجتُ للتمشية في حدائق الضيعة. أعتقد أنّني تهت. كنتُ أشعر بالبرد. بعد الحديقة تمتدُّ الحقول، الطبيعة البكر، ظلال أشجار كان يبدو أنَّها تناديني. كانت الرطوبة لا تُطاق. اكتشفتُ كوخًا، وربّما كان إسطبلًا، ولمحت ضوءًا في إحدى نوافذه. اقتربت. سمعت ضحكات رجال واعتراض امرأة. باب الكوخ كان نصف مفتوح. سمعت نباح كلبٍ. طرقتُ، وبدون انتظار إجابة، دخلت الكوخ. رأيت ثلاثة رجال متحلِّقين حول مائدة، ثلاثة من عمّال فارويل، وبجانب فرن على الحطب كانت هناك امرأتان، إحداهما عجوزٌ والأخرى شابّة. عندما رأتاني اقتربتا وأخذتا يدي بين أيديهما الخشِنَة. يا لَسعادتنا بمجيئك يا أبتِ، قالت الأكبر سنًّا بينما تركع أمامي وتحمل يدي إلى شفتَيها. شعرت بالخوف والتقزّز، لكنّني تركتها. كان الرجال قد نهضوا. قال أحدهم: اجلِس أيُّها الأب الشابّ. حينئذٍ فقط انتبهت، مرتعشًا، إلى أنّني ما زلتُ أرتدي الرداء الكهنوتي الذي بدأت به سفري. وسط ارتباكي كنتُ متأكِّدًا أنّني خلعتُه عندما صعدت إلى الغرفة التي خصّصها فارويل لي. لكنَّ الحقيقة أنَّني فكرتُ فقط في تغيير ملابسي ولم أقم بهذا ثم نزلت إلى الاجتماع من جديد مع فارويل في صالة الصيد. وفكّرت أيضًا، هناك، في إسطبل الفلاحين، أنّني لن أجد وقتًا لتغيير ملابسي قبل الطعام. وفكّرت أنَّ فارويل سيُكَوّن انطباعًا خاطئًا عنِّي. وفكّرت أنّ الشاعر الشابّ برفقته سوف يرسم صورة خاطئة عنّي. وفي النهاية فكّرت في الضيوف الذين ما زالوا مفاجأة، وكانوا من دون شكٍّ شخصيّات مهمّة، ورأيت نفسي بالرداء المغطّى بغبار الطريق، وسخام القطار، وتراب الطرق المؤدية إلى «لا ـ باس»، آكُل منزويًا في ركن بعيد على المائدة من دون أن أجرؤ على أن أرفع عيني. وآنذاك سمعت صوتَ أحد الفلّاحين يدعوني إلى الجلوس مجددا. وكالنائم جلست. وسمعت صوت إحدى المرأتين يقول لي أبتِ خذ هذا، أو أبتِ خذ ذاك. وشخص ما حدّثني عن طفل مريض، لكن بلكنة غريبة لدرجة أنّني لم أفهم إن كان الطفل مريضًا أم أنّه ميت بالفعل. ولِمَ تحتاجونني؟ هل الطفل يحتضر؟ إذن اطلبوا طبيبًا. هل مات الطفل منذ زمن بعيد؟ إذن فلتصلّوا للعذراء صلاة الموتى لتسعة أيّام من أجله. فلتنظِّفوا قبره. ولتزيلوا الأعشاب التي تنبت في كلّ مكان. فليكن حاضرًا في صلواتكم. يا إلهي، لا يمكنني أن أكون موجودًا في كلّ مكان. لا يمكنني. هل تمّ تعميده؟ سمعت نفسي أقول. نعم، يا أبت الشابّ. آه، إذن كلّ شيء على ما يرام. هل تريد خبزًا يا أبت الشابّ؟ سأتذوّقه، قلت. وضعوا أمامي شريحةً رفيعةً من الخبز. ناشفًا، كما هو خبز الفلّاحين عادة، محمّصًا في فرن من الطين. وضعت قطعة بين شفتَيَّ. وفي تلك اللحظة بدا لي أنّني أرى الشابَّ الهَرمَ في فتحة الباب. لكنّه كان التوترُ فقط. كنَّا في نهاية عقد الخمسينيات، ويجب أنَ يكون عمرَه في ذلك الوقت خمس سنوات فقط، ربّما ستًّا، ولم تكن له علاقة بالترويع أو التشهير أو المطاردة. هل يعجبك الخبز يا أبت؟، قال أحد الفلّاحين. بلّلتُه باللعاب. جيِّد، قلتُ، لذيذٌ للغاية، شهيٌّ للغاية، متعةٌ للفم، طعامٌ فاخر، منتَجٌ وطني رائع، طعام جيّد لفلّاحينا المجتهدين، لذيذ، لذيذ. والحقيقة أنّ الخبز لم يكن سيّئًا وأنا كنتُ بحاجة إلى الطعام، كنت بحاجة إلى ملء معدتي، وهكذا شكرت الفلّاحين على هديّتهم ثم نهضت، رسمت صليبًا في الهواء، قلت فليباركِ الربُّ هذا البيت، وذهبتُ بخطًى سريعة. عندما خرجت سمعت من جديد نباح الكلب وحفيف أغصانٍ، كأنَّ وحشًا يختفي بين اﻷشجار، ومن هناك كانت عيناه تتابعان خطواتي المتعثّرة بحثًا عن بيت فارويل الذي رأيته في الحال، مضيئًا كأنَّه سفينةٌ عابرةٌ للمحيطاتِ في ليل جنوب العالم. عندما وصلت لم يكن العشاء قد بدأ. وبقرارٍ شجاعٍ حاسمٍ قرَّرت ألَّا أخلعَ ردائي. تجوّلت لفترة في مُتحفِ الصيد، متصفِّحًا بعضَ الكتب المطبوعة في نهايات القرن السادسَ عشرَ وبدايات القرن السابعَ عشرَ. أحد الجدران كان يجمع أفضل الأشعار والسرديات التشيلية وأشهرها، كلُّ كتابٍ مُهدًى من مؤلِّفه إلى فارويل بعبارات لطيفة، مهذَّبة، حميمة ومتواطئة.
الصفحات
- « first
- ‹ previous
- 1
- 2
- 3
- 4