كتاب " إختلال العالم " ، تأليف أمين معلوف ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2009 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
دخلنا القرن الجديد بلا بوصلة.
أنت هنا
قراءة كتاب إختلال العالم
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
![إختلال العالم إختلال العالم](https://files.ektab.com/php54/s3fs-public/styles/linked-image/public/book_cover/fa148f.jpg?itok=fiXBg51V)
إختلال العالم
ظل الانسان باقياً حتى الآن لأنه من فرط جهله لم يكن قادراً على تحقيق رغباته. والآن وقد بات قادراً على تحقيقها، عليه أن يبدلها أو يهلك.
وليم كرلوس وليامز(1883 ــــــ 1963)
دخلنا القرن الجديد بلا بوصلة.
لقد أخذت تحصل منذ الأشهر الأولى أحداث مقلقة تحمل على الظن بأن العالم يعاني اختلالاً كبيراً، وفي عدة ميادين معاً ــــــ اختلالاً فكرياً، اختلالاً مالياً، اختلالاً مناخياً، اختلالاً جيوسياسياً، اختلالاً أخلاقياً.
صحيح أننا نشهد، بين حين وآخر، تحولات غير مأمولة؛ فنروح نحسب أن البشر، وقد وصلوا إلى المأزق، لا بد لهم من أن يكتشفوا وسائل الخروج منه، كما بمعجزة. إلا أنه سرعان ما تبرز اضطرابات جديدة، تميط اللثام عن نوازع بشرية مختلفة جداً، أشد غموضاً، أكثر اعتيادية، فنروح نتساءل عما إذا لم يكن جنسنا البشري قد بلغ، بمعنى ما، عتبة قصوره الخلقي، وما إذا كان لا يزال قادراً على التقدم، وما إذا كان قد باشر تواً حركة تقهقرية تنذر بالتنكر لما جهدت أجيال متعاقبة في العمل على بنائه.
لست هنا بصدد حالات الجزع اللاعقلانية التي رافقت الانتقال من ألفية إلى أخرى، ولا بصدد صيحات الويل المتكررة التي يطلقها دوماً أولئك الذين يخشون التغيير أو يفزعون من وتيرته. إن مصدر قلقي هو من نوع آخر؛ إنه قلق نصير للأنوار ، يراها تترنح، وتشحب، وفي بعض البلدان، تشرف على الانطفاء؛ إنه قلق مولع بالحرية، التي كان يحسبها سائرة إلى الانتشار في كل أنحاء المعمورة وهو الآن يشهد ارتسام ملامح عالم لا مكان لها فيه؛ إنه قلق نصير للتنوع المتناسق يجد نفسه مكرهاً على أن يشهد، عاجزاً، صعود التعصب، والعنف، والنبذ، واليأس؛ إنه أولاً، وبكل بساطة قلق عاشق للحياة، لا يقبل التسليم بالفناء الذي يتربص بها.
دفعاً لكل التباس، أصر على القول إنني لست من أولئك الناقمين على الزمن الحاضر؛ وإنما أنا مفتون بما يأتينا به عصرنا، مترصد لآخر مخترعاته، التي أسارع إلى إدراجها في حياتي اليومية؛ وأنا مدرك لانتسابي، بسبب الخطوات المتقدمة في الطب وفي المعلوماتية على الأقل، إلى جيل محظوظ جداً بالنسبة إلى الأجيال التي سبقته. غير أنه لا يسعني أن أتذوق ثمار الحداثة بكل اطمئنان ما لم أكن واثقاً بأن الأجيال القادمة ستتذوقها بالاطمئنان إياه.
أتراني أبالغ في المخاوف؟ لا أظن، لسوء الطالع. فهي، على عكس ذلك، تبدو لي مخاوف لها مبرراتها، الأمر الذي سأعمل على تبيانه في الصفحات التالية؛ لا أبغي من وراء هذا مراكمة وثائق في ملف، ولا الدفاع عن فرضية قد تخصني، مدفوعاً بحب الذات، وإنما إيصال صرخة الانذار هذه إلى الأسماع؛ وما أطمح إليه بالدرجة الأولى هو إيجاد الكلمات الصائبة لإقناع معاصريّ، «رفاقي في السفر»، بأن المركب الذي نحن على متنه بات بعد الآن هائماً على وجهه، بلا طريق، ولا مقصد، ولا رؤية، ولا بوصلة، في بحر هائج، وأنه لا بد من صحوة، ومن حالة طوارىء تفادياً للغرق. لن يكون كافياً أن نواصل السير في الوثبة التي بدأناها، كيفما اتفق، مبحرين اتكالاً على البصر، متحاشين بعض العوائق، مسلمين أمرنا للزمن. فالزمن ليس حليفنا، وإنما هو القاضي الذي يحاكمنا، ونحن منذ الآن محكومون مع وقف التنفيذ.
إذا كانت الصورة البحرية تحضر إلى الذهن عفو الخاطر، فلربما كان من واجبي أولاً أن أعبر عن مخاوفي بهذه المعاينة البسيطة والجافة: تواجه الانسانية، في مرحلة تطورها الراهنة، أخطاراً جديدة، لا مثيل لها في التاريخ، وتتطلب حلولاً شاملة مبتكرة؛ وإذا لم تتوافر هذه الحلول في مستقبل قريب، فلن يكون بالامكان أن نحافظ على شيء من كل ما صنع عظمة حضارتنا وجمالها؛ والحال أنه لا توجد حتى اليوم سوى مؤشرات قليلة تسمح بالأمل بأن يحسن البشر التغلب على تبايناتهم واستنباط حلول يسيرة التصور، ثم أن يتحدوا ويعبئوا جهودهم لوضعها موضع التنفيذ؛ هناك علامات كثيرة تحمل على الظن بأن اختلال العالم وصل إلى طور متقدم وبأن الحؤول دون التقهقر سيكون أمراً عسيراً.
في الصفحات التي تلي، لن أعالج الاضطرابات المختلفة كملفات منفصل بعضها عن بعض، ولا على نحو منهجي. سيكون مسعاي أقرب إلى مسعى ناطور ليلي لبستان غداة مرور عاصفة، وفيما تنذر بالهبوب عاصفة أخرى أشد عنفاً. يجول الرجل بقدمين حذرتين. حاملاً مصباحه، ناقلاً ضوءه من مكان إلى آخر، مستكشفاً الممرات، منحنياً فوق شجرة عتيقة اقتلعتها العاصفة؛ ثم يتوجه إلى مرتفع، ويطفىء مصباحه، ويحاول إلقاء نظرة شاملة على المشهد بكامله.
إنه ليس عالم نبات، ولا مهندساً زراعياً، ولا رساماً لمناظر الطبيعة، ولا يملك شيئاً في هذا البستان. إلا أنه هنا يقيم، مع الأشخاص الأعزاء عليه، وكل ما يمكن أن يمس هذه الأرض يمسه عن كثب.