كتاب " كوبا الحلم الضائع " ، تأليف د. عبد الحسين شعبان ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب كوبا الحلم الغامض
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

كوبا الحلم الغامض
جيفارا والأممية البيروقراطية
ثمة إشكالية فكرية وخلافات نظرية وتكتيكية كانت قد أخذت طريقها بين الحزب الشيوعي الكوبـي المتأثر بالنهج السوفييتي، وبين الاتجاه الثوري لكاسترو وجيفارا ورفاقهما. وكانت الأطروحة الشيوعية الرسمية تشكك بإمكانية نجاح ثورة جبال السيرامايسترا واستخدام البؤر الثورية والتركيز على دور الطليعة والنخبة بدلاً من دور الجماهير وقناعاتها، لاسيّما تجاوز دور الحزب والسعي لحرق المراحل لإنضاج الظروف الموضوعية وتسريع إنضاج الظروف الذاتية. ولهذا السبب ناصبت الحركة الشيوعية الرسمية العداء للاتجاه الكاستروي- الجيفاري، وهو ما كان سائداً ضمن الخط السوفييتي، خصوصاً بتفضيل أسلوب النضال السلمي والسياسي وإعراضها عن أسلوب الكفاح المسلح، بل تسفيهه. لكنها بالرغم من ذلك أسهمت في تهيئة الظروف الموضوعية للثورة من خلال نضالات سياسية وبخاصة قيادتها للإضراب العمالي العام عشية انتصار الثورة، وهو ما قيّمه كاسترو إيجابياً في تقريره المقدّم إلى المؤتمر الأول للحزب الشيوعي الكوبـي المنعقد في شهر كانون الأول (ديسمبر) العام 1975 بعد اتحاده مع حركة 26 تموز (يوليو)، كما سيأتي ذكره.
وقد انعكس ذلك لاحقاً على تطور العلاقات الكوبية- السوفييتية وفي الموقف من تشي جيفارا أيضاً، الثوري الذي ظل حالماً؛ فيوم أنهى دراسته في كلية الطب العام 1953 قام بجولة على دراجته النارية (الموتورسايكل) في أنحاء القارة الأميركية ليتعرّف على أوضاعها ويتحسّس الظلم الذي تعاني منه. وفي العام 1954 التقى بصديقته (الليدا) Aleida التي تزوجها لاحقاً، وكان تشي جيفارا قد التقى بكاسترو بعد فشل المحاولة الثورية الأولى واعتقال عدد من القيادات الثورية بينهم كاسترو وجيفارا وراؤول في المكسيك، وهناك اتفقا في عهدٍ لا انفصام فيه على مشروع الثورة، التي كان كاسترو منظّرها ومحاميها وكان تشي جيفارا أحد أبطالها وطبيبها.
في شهر كانون الأول (ديسمبر) العام 1956 غادرت ثلة من الثوار باتجاه الشواطئ الكوبية، وكان عددهم 82، وكانت المفاجأة ترصّد رجال باتيستا لهم، فتفرق شملهم ولم يبقَ منهم إلا 21 مناضلاً، كما سبق ذكره. بعد الثورة حظي تشي جيفارا بمكانة كبيرة وأصبح رمزاً لجيل الشباب الثوري، ليس في أميركا اللاتينية فحسب، بل في العالم أجمع، لدرجة أن تقليعة شعره وقبعته العسكرية أصبحتا أحد موديلات العصر. لم يطق أن يكون وزيراً للصناعة ومسؤولاً في الحزب والدولة التي شهدت تحالفاً ثورياً جديداً بانضمام المجاميع الثورية بما فيها الحزب الشيوعي إلى جناح فيدل كاسترو وتتويجه زعيماً على البلاد دون منازع، وقد يكون ذلك أحد أخطاء الثورة التي أنهت عهد التعددية والمنافسة المشروعة ودفعت البلاد باتجاه الواحدية والمركزية والصرامة والحزب الواحد، وزاد من هذا التوجه السلطوي الشمولي، استمرار الحصار الأميركي الجائر، وما تركه من تأثيرات سلبية عميقة، نفسية واجتماعية على المجتمع الكوبـي.
وعلى الرغم من التصالح الكوبي- السوفييتي فإن موقف تشي جيفارا والثورة الكوبية ظلّ ملتبساً بالنسبة للحركة الشيوعية العالمية، قبل وبُعيد أزمة الصواريخ العام 1962. وعندما زار كاسترو الاتحاد السوفييتي في زيارة سرّية استغرقت مدة 35 يوماً، عاد وقلبه مملوء بالقيح للبيروقراطية والفوارق الطبقية بين القيادات والجماهير، وتبددّ الحلم الثوري، خصوصاً في ظل تفاقم الصعوبات والأخطاء والتحديات.
أما عندما زار تشي جيفارا الاتحاد السوفييتي لأول مرّة فقد استقبله أمين عام الحزب نيكيتا خروشوف بالأحضان، ولم يكن هو مرتاحاً من تلك الزيارة، وانتقد الأوضاع كثيراً وعبّر عن تبرمه، الأمر الذي لم يحبّذه السوفييت، الذين كانوا يرغبون في أن يقدّم إليهم زعماء الأحزاب الشيوعية الولاء والطاعة ويعلنون جهاراً نهاراً عن تأييد كامل سياساتهم وتوجهاتهم، حتى إزاء بلدانهم أحياناً.
في الزيارة الثانية لم يستقبله أي مسؤول سوفييتي كبير واكتفوا بموظف حزبـي من وزارة الخارجية، لأن حبل الودّ بينه وبينهم قد انقطع، وذلك جزء من عدم الارتياح سواءً اتفق ذلك أو تعارض مع البروتوكول الدبلوماسي، فالمركز الأممي لم تكن تهمّه كثيراً مثل تلك الاعتبارات، لاسيّما في ظل بيروقراطية الدولة وآلتها التي أكلت الثوريين، فتحولوا في الكثير من الأحيان إلى مجرد موظفين لا قلب لهم، في حين كان جيفارا يضع قلبه وعقله في مكان واحد.
وعندما قرر تشي جيفارا الذهاب إلى الكونغو لم يُطلع السوفييت على سرّ رحلته، الأمر الذي أغاظهم كثيراً، وحاولوا النيل منه لأنه حسب التبريرات السائدة فإنَّ خطوته كانت تهديداً لسياسة التعايش السلمي، وهو الموضوع الذي كانوا يحرصون عليه أشد الحرص، حتى قيل إنهم كانوا لا يتورّعون عن إعلان معارضتهم لسياسات حلفائهم «انسجاماً» مع ما سُمّي «سياسة الوفاق الدولي» . أما في بوليفيا فقد كانت المسألة أكثر سوءًا حين اتّخذ الحزب الشيوعي البوليفي موقفاً أقرب إلى العداء، وأكثر من النقد والاختلاف الفكري من تشي جيفارا، وأشيع في حينها أن كشف مكان تشي جيفارا الذي بذلت فيه الــــ CIA جهوداً مضنية لم يكن بمعزل عن تواطؤ مباشر أو غير مباشر مع الــــ KGB عبر اختراقات ملتبسة ومعقدة، بالرغم من أن هذه المسألة لم تظهر حولها دراسات كافية حتى الآن، لاسيّما من جانب الأوساط المتنفذة آنذاك، وهو ما حاولت أن أناقش فيه مرافقي إدواردو البالغ من العمر 45 عاماً والمتحدث الممتاز باللغة الإنجليزية، الذي رافقني من منتجع فراديرو، إلى مدينة سانتا كلارا الشهيرة في محافظة فيلّا كلارا، إلى مدينة ترينداد التاريخية الجميلة، والتي كانت ضمن إحدى خطط الـ CIA لغزو كوبا في الستينيات.
في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) 1967 أعلن عن مقتل تشي جيفارا ولم يعثر على رفاته إلا بعد مرور 30 عاماً أي في العام 1997 فنقل إلى مقبرة سانتا كلارا وإلى جانبه صديقته الألمانية تمارا بونكر المعروفة باسمها الحركي «تانيا» التي ربطته بها علاقة متميزة وأثيرة.
إن صورة جيفارا الشهيرة التي التقطها المصور كوردا تجوب العالم اليوم، وهي تعود مثل طائر العنقاء تحط على الصدور والقمصان والمحفظات وعلب الموسيقى وتتصدر بروشورات العروض المسرحية (الكتيبات الدعائية) والأفلام وقصائد الشعر والروايات والمنحوتات والدراسات والأبحاث. إن صورة جيفارا اليوم تزيّن البيوت والمكاتب والقاعات والساحات، والأهم من ذلك أنها تسكن في قلوب النساء والرجال، ولاسيّما الشباب منهم من ألوان وأجناس وأمم وشعوب وقوميات ولغات وأديان شتى.
وهذه الصورة ليست للتسويق أو «الماركيتنغ» (Marketing) كما يتمّ التداول، بل تختزل كل الأشياء الآن، فهي لرمز صنع نفسه وصنعته الأحداث، لبطولة ورومانسية ومثالية نادرة، لذلك الحلم الغامض الذي ظل يلفّ كل عقل جيفارا، وكان يردد ما كان إنجلز (Friedrich Engles) يكتبه: «السعادة في النضال والتعاسة في الخنوع».
إن صورة جيفارا ليست مدفوعة الثمن، إنها ملك مشاع لكل من يرغب للتمثل به أو إحياء ذكراه.
* * *