قراءة كتاب كوبا الحلم الغامض

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
كوبا الحلم الغامض

كوبا الحلم الغامض

كتاب " كوبا الحلم الضائع " ، تأليف د. عبد الحسين شعبان ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2011 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 8

جيفارا ورمزية الصورة وصورة الرمز

لعلّها مفاجأة لمن يزور كوبا، حين لا يلحظ وجود صورة فيدل كاسترو قائد الكفاح المسلح وزعيم الثورة ضد نظام باتيستا وقائد البلاد لنحو خمسة عقود من الزمان، مثلما شاعت صور كيم إيل سونغ في كوريا، وماوتسي تونغ في الصين، و ستالين وبعده الزعماء السوفييت في الاتحاد السوفييتي السابق، و تشاوتشيسكو في رومانيا، و جوزيف بروز تيتو في يوغسلافيا، وتقليدهم في دول العالم الثالث وما أطلقنا عليه بلدان «التحرر الوطني»، التي بالغت في نشر صور «القادة» المنـزّهين، وخارج نطاق النقد، في كل مكان.
ربما تلك المفارقة الأولى المباشرة التي تدهش الزائر، لاسيّما إذا كان قد عاش في ظل أنظمة «العالم الثالث» والأنظمة الثورية والاشتراكية، لدرجة تجعل المرء في حيرة من أمره، حين يستعيد كيف تنتشر صور وتماثيل قادة الأنظمة الشمولية اليسارية والقومية والإسلامية وغيرها، في حين تختفي تماماً صورة كاسترو من المكاتب والجدران والساحات والأماكن العامة، ويتحدث عنه الناس لا باعتباره معصوماً أو خارج النقد، بل باعتباره صديقاً لهم أحياناً، حتى وإن اختلفوا معه أو بشأنه، وبشأن نظام الحكم وتقييماتهم له. ونقول ذلك ليس من باب الدعاية الأيديولوجية السابقة لإثبات الأفضليات، كما كان سائداً، ولكننا نتعرض لذلك مقارنة، بقدر كونه واقعاً تتميّز به كوبا ونظامها السياسي، لكن ذلك لا يمنع من نقد بعض الجوانب التي تتعلق باحتكار العمل السياسي والنقابـي وهيمنة الحزب الواحد والمركزية الصارمة وشحّ حرية التعبير وغيرها.
أما المفارقة الثانية فإن صورة أرنستو تشي جيفارا تكاد تصادفها في كل مكان، وقد تكون تعويضاً عن صورة القائد- الرمز، مثلما هي رمزية البطولة والشهادة، خصوصاً وأن صاحبها غادرنا، وهو بعيد عن جبروت وقوة أهل النفوذ والسلطة، الأمر الذي يجعل صورة جيفارا نموذجاً رمزياً لحالة رومانسية وليست سلطوية، فهذا الاشتراكي النبيل، يبدو مثل فارس أو أمير، مملوء بالأحلام الغامضة الخضراء.
كان ذلك الطبيب الأرجنتيني الوسيم، الشجاع، ومحبوب النساء، قد ضاق ذرعاً بالوزارة، فقرر الانتقال إلى حيث مواقع المواجهة، مقاوماً بلا هوادة آفة البيروقراطية التي خاف على نفسه من أن تأكله، مدافعاً بلا حدود عن موقعه الثوري، ضد آلة الدولة التي حاول «الزوغان» عنها خوفاً من التهامه.
لقد أراد جيفارا أن يبقى ثورياً «طازجاً» لكل الفصول، فبذل كل ما في وسعه لكي لا يتحوّل إلى موظف أو إداري بيروقراطي، وهو الثوري الحالم، ولذلك لبّى نداء قلبه وعقله، وعاد إلى موقعه الحقيقي حيث الثورة التي في داخله، وهي التي قادته إلى الكونغو العام 1965، ليناضل ضد ظلم المستعمرين وأعوانهم وكان يردد «حيثما وجِدَ ظلم فهناك وطني»، مؤمناً بأن الحرية والعدالة هما وطنه، الذي يستحق أن يدافع فيه عن الإنسان بغض النظر عن قوميته وجنسيته وجنسه وانتمائه السياسي والثقافي وانحداره الاجتماعي وغير ذلك.
ومن الكونغو في أفريقيا إلى بوليفيا في أميركا اللاتينية شدّ رحاله مرّة أخرى، حيث لم يهدأ أو يقرّ له قرار منذ أن التقى كاسترو وشقيقه راؤول في المكسيك، وانتقلوا منها إلى الشواطئ الكوبية، ليتمكنوا لاحقاً من الزحف على هافانا لإسقاط نظام الدكتاتور باتيستا، بعد رحلة مضنية ومثيرة وشجاعة عبر جبال السيرامايسترا. لقد رفض تشي جيفارا كل إغراءات السلطة وكان ظمأه إلى الحرية يزداد ويتعمّق كل يوم مثلما كانت العدالة الاجتماعية هاجسه باستمرار.
يوم شاع نبأ اغتيال جيفارا في 8 تشرين الأول (أكتوبر) 1967، علق المفكّر الفرنسي الكبير جان بول سارتر قائلاً: «إن جيفارا كان أكثر الرجال كمالاً في عصرنا»، وهو الذي التقاه مع صديقته الأديبة سيمون دي بوفوار بعد انتصار الثورة العام 1959، بكل العفاف الثوري والنـزاهة الأخلاقية والتجرّد الإنساني والاستعداد للتضحية بلا حدود. وكنت قد سألت الجواهري شاعر العرب الأكبر في إحدى مطارحاتنا عن جيفارا فردد بيتاً من الشعر:
إن الحياة معاناةٌ وتضحيةٌ
حبّ السلامة فيها أرذل السبلِ
علّقت عليه ألست أنت القائل؟:
وأركبُ الهولَ في ريعان مأمنةٍ
حبّ الحياة بحب الموت يغريني؟
وهنا التمعت عينا الجواهري فرحاً وكأنه يتحدث عن نفسه، فقال إن الشجعان المضحّين هم أكثر حبّاً للحياة وتفانياً من أجلها واستعداداً للبذل والعطاء، لأنهم يريدون حياة كريمة وحرّة، وصدق من قال:
لا تسقني كأس الحياة بذلـّةٍ
بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل
وإذا كان جيفارا شجاعاً، فلكونه إنساناً لديه إحساس عالٍ بالعدالة بكل ما تعني هذه الكلمة، وهنا لا أريد أن أضفي عليه صفة القداسة، مثلما يفعل بعض من محبيه ومريديه، في حين يدمغه خصومه وأعداؤه بممارسة العنف، بل والإرهاب، لكونه اختار طريق الكفاح المسلح؛ ومرّة أخرى لا بدّ من تسليط الضوء على خيارات جيفارا باعتباره نتاج مرحلة، كان فيها العنف الثوري والكفاح المسلح، أحد مستلزمات النضال الاشتراكي واليساري، لاسيّما خلال فترة الستينيات وتفاقم الحرب الباردة والصراع الأيديولوجي بين المعسكرين: الاشتراكي والرأسمالي، فقد وضع ما يؤمن به موضع التطبيق، وعاش بكل جوارحه للمثُل والقيم التي كان يدعو إليها.
قد يكون بعضهم بالغ حين جعل من جيفارا أسطورة من الأساطير، وهو ما ينسجم مع البحث الإنساني- لاسيّما في البلدان النامية- عن مخلّص أو منقذ أو بطل خارق، الأمر الذي كان يتعارض مع سلوك جيفارا ونهجه، حيث كان يعيش حياته بكل اعتيادية وإنسانية شفيفة، يحب ويعشق ويدخّن ويكتب، يخطئ ويصيب وهو هكذا ينظر إلى الآخرين من موقع النقد والنقد الذاتي، ولعلّ أهم ما يميّزه عن غيره أنه في كل ما قال وعمل كان صادقاً وأصيلاً وشجاعاً، الأمر الذي ينبغي أن يؤخذ في سياقه التاريخي، ضمن الفكر السائد آنذاك، لاسيّما باشتعال الصراع على جميع الجبهات بين الرأسمالية والاشتراكية.
وإذا كان لجيفارا رمزية خاصة، فلعلّ جزءًا منها تكوّن بعد استشهاده المثير في بوليفيا وتعدّد الروايات حول مقتله، ومن ثم تغييب جثمانه وأخيراً ما ارتبط بنقل رُفاته بعد 30 عاماً.
ليست صورة تشي جيفارا وحده، بالرغم من أنها الأبرز تزيّن الأماكن العامة، والساحات والمكاتب الرسمية وغير الرسمية، فصور وتماثيل الشهداء والأبطال تملأ الفضاءات بكل أناقة وذوق؛ إنها رمزية الصورة وصورة الرمز، حيث تختلط في إطار من الحلم الوقّاد، بهارمونية إنسانية باهرة.
في مكان متميّز من هافانا (ساحة الحريّة) انتصب تمثال البطل القومي الكوبـي سان خوزيه مارتيه الذي استشهد في نهاية القرن التاسع عشر مقاوماً الغزو الأجنبـي، دفاعاً عن وطنه وهو الشخصية الكوبية الجامعة التي يمجّدها الكوبيون ويتحدثون عنها باعتزاز كبير. تمثال سان خوزيه مارتيه وهو يحمل طفلاً، له رمزية أخرى، فكأنه يريد أن يقول لأطفال كوبا والعالم أجمع وجميع المضطهدين من مختلف الأجيال: إن عدوكم هو هذا، حيث يوجّه نظره صوب الولايات المتحدة التي تحاصر كوبا منذ خمسة عقود من الزمان.
لم يكن الاتحاد السوفييتي السابق بالرغم من كل الاختلافات والمشاحنات الفكرية والعملية يتردد في تقديم المساعدات الأممية لكوبا، وبغض النظر عن بعض الضغوط ومحاولات إملاء الإرادة وإشكالية العلاقات، إلا أنها استطاعت حماية كوبا في فترة عصيبة من الحرب الباردة، ولم تتجرأ واشنطن على مهاجمتها، لاسيّما بعد الوفاق الذي أعقب أزمة الصواريخ العام 1962 بين جون كيندي ونيكيتا خروشوف ، حين تمّ سحب الصواريخ السوفييتية، مقابل تعهد بعدم مهاجمة كوبا.
لكن واشنطن بعد انهيار الكتلة الاشتراكية وانقطاع المساعدات عن كوبا، أقدمت عبر سفارتها في هافانا على رفع لوحات مضاءة أمام مبناها وبأعلى طابق تدعو الشعب الكوبـي إلى التمرد والثورة ضد حكومة فيدل كاسترو والحزب الشيوعي، وبالرغم من أن ذلك الإجراء غير دبلوماسي، إلا أن السلطات الكوبية واجهتها بالأسلوب نفسه حين رفعت راياتٍ وأعلاماً، حتى كادت المنطقة تحجب رؤية المارّة عن قراءة ما كتبته السفارة الأميركية، وسميّ ذلك المكان «جبل الرايات» أو «تلة الأعلام»، وهو عبارة عن مرتفع عُرف باسم «منصّة مناهضة الإمبريالية» قبالة السفارة الأميركية، وبادر المواطنون لعقد محاكمات صورية لقادة الولايات المتحدة، حيث يحضر فيها أبناء الشهداء والضحايا الذين سقطوا جرّاء خطط الغزو والتآمر والحصار، إضافة إلى بقايا الهنود الحمر الذين يقدمون شهاداتهم بحق ما لحق بهم من غبن وحيف ويطالبون بالتعويض وجبر الضرر وإحقاق العدالة!
* * *

الصفحات