كتاب " يوم بدأت الكتابة - سردية من سيرة ذاتية " ، تأليف فيصل فرحات ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2008 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:
أنت هنا
قراءة كتاب يوم بدأت الكتابة - سردية من سيرة ذاتية
تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"
يوم بدأت الكتابة - سردية من سيرة ذاتية
أن تصوير قعر المجتمع والشرور الاجتماعية ليس جديداً، لا في الأدب العالمي ولا في الأدب العربي. لقد ظهر هذا الأدب أولاً، لحد علمنا، في الأدب الفرنسي مع فيكتور هيغو في روايته «أحدب نوتردام» و «البؤساء»، وفي الأدب الروسي تناول هذا الموضوع مكسيم غوركي وخاصة في مسرحيته «في القعر» وليس «في القاع» كما ترجمت خطأً أو «في الحضيض» بحسب ترجمات أخرى. وغيرهما مارسوا هذا النوع من الكتابة كيوسف إدريس في مصر ومحمد عيتاني في لبنان ومن المعاصرين المغربي محمد شكري. الكتابة في هذه الموضوعة جميلة ومشوقة تجذب القارىء وتشده إلى معرفة مصير البطل الفقير. فصاحب هذه الكتابة غالباً ما يكون هو نفسه من عاش هذه الحياة واختبرها ببؤسها وشقائها وعانى سيئاتها وشرورها. فهو لا يلجأ الى الخيال ولا يذهب الى تركيب الحوادث، ليقدم عملاً فنياً من إبداع الخيال، لكنه يعطي عملاً تسجيلياً نكاد نقول وثائقياً. وكاتب هذه الأعمال عادة لم يدخل المدرسة، أو تكون مدرسته بسيطة بدائية، وتكون الحياة هي مدرسته الأولى والأخيرة. فقد صرح مكسيم غوركي مرة، إنه هو الذي يعرف الاقتصاد السياسي أكثر من غيره، لأنه درسه على ظهره. عندما كان يعمل حمَّالاً في المرافىء. من جراء ذلك نجد أن لغة نتاجاتهم واضحة بسيطة غير معقدة تحمل أكبر قدر من الانفعال والإبلاغية. والكتَّاب القدماء كانوا يتكلمون بضمير الغائب أو آل هم، أما كاتبنا، كما محمد شكري، فيكتبون بضمير الأنا، ويسردون أحداثاً جرت معهم شخصياً وهم أبطالها.
من أهم الظواهر التي يسجلها فرحات في هذه السردية علاقة الكاتب الحميمة بالمدينة. فهو بعكس والده، وُلد في المدينة والمدينة «ملكٌ» له. فعندما يطرده والده من المنزل يتشرد ليلاً في المدينة، ويعتبر نفسه إبن المدينة، ينام أين يشاء يأخذ من الصناديق الخشبية ما يريد، ليجعلها سريراً له. عبر فتحاتها ينظر الى القمر والسماء والحياة بمجملها، يأخذ من علب الكرتون ما يحتاج لكي ينام عليها، لذا تتحول الأمكنة المدينية مسرحاً له. لذا نجد وصف المدينة يغيب عن هذه السردية، فهو عندما يتكلم عن الأحداث يتكلم عن الزمان ولا يتكلم عن الأماكن التي جرت فيها تلك الأحداث. وهذا بنظري عائد لسببين؛ الأول، أن الوصف يعني الكشف بقصد المعرفة التي هي في نهاية المطاف محاولة لامتلاك الموصوف، والكاتب لا يسعى لمعرفة هذه إلى بيروت، لأنه يمتلكها، فشارع ساسين بالنسبة له هو أكبر شوارع بيروت، ويعرف أيضاً أن شارع الحمراء هو أكبر من شارع ساسين. السبب الثاني أن كاتب هذه السردية، هو في الأساس، كاتب مسرحي، وفي المسرح لا وصف للأماكن لأن الديكور يتكفل بهذه المهمة. الموقع الأول في المسرح هو للأبطال. وهمُّ الكاتب الأول هو حركات الشخصيات وتصرفاتهم وعلامات وجوههم ودلالاتها وحركات أجسادهم وما تنتجه من معنى، لذا نجد الوصف الأول في هذه السردية. هو للشخصيات. وعلى السلبيين منهم يصب جام غضبه، لأنه يقسم الناس قسمين أخياراً وأشراراً. إضافة الى الخصائص الكتابية المستمدة من المسرح، فالكاتب، مدفوعاً بنظرته الانسانية، يسعى لرؤية الجانب الخيِّر لدى البشر بالرغم من شظف العيش الذي يعانيه والشرور التي يتعرض لها منهم، وتصوير هذه العلاقة السلبية بالوالد ليس لأنه يسيء إليه، بل لأن الوالد يشكل بنظره «كاره البشر».
ما يؤكد هذا الكلام، أن الذي منع الطفل ـ الكاتب من الانتحار هو رؤيته تحول الزبد الى ما كانه، الى ماء. فالموج عندما كان يدفع مياه البحر ويحركها ينتج زبداً يطفو على سطح الماء، لكنه يعود ماءً مجدداً، والشرور وقسوة العيش في هذه الحياة لا بد أن تتغير وتعود صافيةً مجدداً، خاصة وأن القدرة الإلهية هي الى جانبه، وجانب جميع المعذبين في الأرض. تقول له الوالدة؛ إن الله سيوفقك في حياتك لأن أباك عذبك كثيراً.
العامل الثاني الذي منع الطفل من الانتحار هو رؤيته لعابر السبيل، الذي نظر اليه، فأحس بتعاطف متبادل معه، مما دفعه الى الاعتقاد بأن هناك وجهاً آخر للحياة غير الذي يحياه، وهناك أسرار كثيرة في الحياة واكتشافات عديدة هي التي ستغير هذا الواقع الأليم. مثل رؤيته لتلك المرأة في الحانة ليلاً، ومداعبة الرجل لها ووضع يده بين فخذيها. لقد أثارت لديه الفضول الطفولي مما دفعه للعودة إليها مجدداً، لكي يبيعها العلكة، مع قناعته الأكيدة أنها ستشتري منه. لكن بواب الحانة طرده ومنعه من الدخول.
إن هذه المرحلة الطفولية بأحداثها المميزة، أراد فرحات تسجيلها كما هي، محاولاً استعادة تلك المرحلة بحذافيرها وأجوائها الخاصة بها، مع علمنا أن هذا صعب جداً، فالكاتب هنا يحاول أن يروي بوعي الطفل الذي كان، وليس بوعي الحاضر الذي هو عليه الآن. كما أنه كان موفقاً بتسجيل هذه الأحداث بلغة ذلك الطفل وليس بلغة هذا الرجل، وهنا أيضاً لعبت الوظيفة المسرحية دورها في السرد فأتت لغة الكاتب أقرب إلى العامية المفصحنة، فكانت لغته أقرب إلى لغة الحياة التي يتشبث بها.
هذه هي السردية صراع بين البشر الخيرين والأشرار، مع اعتقاد البطل أن الخيِّرين هم الذين سيرثون الأرض.
أخيراً يبقى هذا العمل أكبر من أن تحيط به مجموعة ملاحظات عابرة، هي أضعف من أن تصف كل أبعاده الجمالية والقيم الأدبية التي يبقها الكاتب في هذا العمل. وتبقى المتعة الأساسية التي يجنيها القارىء هي متعة متابعة هذا العمل الى نهايته السعيدة، واكتشاف قعر المدينة وزمن تحولها في ستينيات القرن الماضي.
د. نسيم عون
بيروت