أنت هنا

قراءة كتاب أحلام

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أحلام

أحلام

كتاب " أحلام " ، تأليف سالمين القذافي ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 1

رحيل

وقفت تتأمل الناس بعد غياب وعزلة وصمت حيث ابتعدت عن الجميع جراء المرض الذي ألمَّ بها، وفرض عليها هذا الابتعاد. كانت تتأمل الناس بعينين ملؤهما الأمل والاستبشار بالغد لعله يكون الأفضل ولعل الأحوال تتغير ويأتي من أبنائها من يكون دواءً وبلسماً لجراحات ماضٍ لا ينسى...

وبرغم الحزن والمرض اللذين تعكسهما ملامحها السمراء وعيناها السوداوان الجميلتان، وبسمتها التي كانت تشع بروعة الحب والأمل لتأسر بها الجميع الصغير قبل الكبير... برغم كل ذلك وقفت فاطمة متسائلة هل ستبتسم الحياة لها بعد هذا العناء الطويل؟ وهل يمكن أن تكون كما أحبت هي أن تكون، حتى وإن بدأت سنون العمر تتراجع وتترك بصمتها على مفرق الرأس وخربشات طفيفة على ملامح الوجه... كم ظلت تختزن الحزن في داخلها حتى أحست بموت المرض الساكن فيها من سنين ولم تعد تشعر به.

صمتت رغم الألم حتى إذا عبّرت عنه أسكتها من حولها بعيونهم: أنت تتوهمين... لاذت بالصمت لأنها شعرت بأن الناس ربما قلّ لديهم الإحساس بالآخرين وباتت دنياهم محصورة بأمور تلهيهم عمن حولهم...

ولعلها شعرت بأن الحديث لم يعد يجدي وبأن الإنسان لم يعد كما كان... صمتت مكتفية برسم البسمة على شفتيها دون أن تكلم أحداً عن أحزانها ومرضها ومآسيها.. ولم تجد أفضل من كتاب الله تقرأه وتفسره في كل أوقاتها وترعى أبناءها... حتى وإن جالست أحداً فلا تسمع منه إلا النصح والمواعظ وأحاديث العبرة. هكذا شعرت فاطمة براحة أكبر مع ما تعانيه من الإرهاق والقلق اللذين خلّفتهما لها السنون مع الحزن الطافح من ملامحها الصامتة... لتقف طويلاً منفردة في معركة أقلّ ما يقال عنها إنها لم تخرج منها إلا بالخسائر، ولم تجنِ سوى الآلام... ولكنْ ما زالت هناك فترة انتظار تحبسها عبر رحلة العمر... أنْ تحقق حلماً طالما راودها في طفولتها ولم تكمله، وهو أن تلتحق بمدرسة مسائية لتعليم الكبار بعدما فاتت قطارها تلك المحطات التي كان يمكنها أن تنهل منها من منابع المعرفة... وتُثبت للجميع بمن فيهم أبناؤها وزوجها أنها تملك حقيقة الواقع واللحظة الراحلة ولا تركن أبداً إلى الخيال، ولا تشكك في قدرة الله على العطاء، ولا في قدرته على منح القوة والأمل... وتتأمل الشمس والقمر ليقينها أن في تعاقبهما روح الحياة وسرّها والأمل الممتدّ فينا حتى وإن بات يخبو... وذلك رغم المرض وتصارع رياح الوجع والألم من مرارة الماضي والخوف من الآتي لتكون صورة ليس لتمثال صامت، بل لروح متمردة.

ترى فاطمة أبناءها يكبرون من حولها وهي تحبس أوجاعاً كثيرة داخلها لا تمحوها الأحداث الآتية، حتى وإن كانت كما تتمنى. وها هي رحلة الأربعة والأربعين عاماً تنثر أوجاعاً سكنت شهوراً بداخلها لتسكن بعدها الأرض... وتنهي روحاً طالما حلمت بالكثير منذ وقت مبكر ولكن الزمن لعب لعبته معها فأرهقها وأعياها ولم يكن الوقوف الأخير إلا محطات رسمتها اعتزازاً وثقةً ورحلت في يوم غائم كئيب، تناثرت فيه حبات المطر وكأنها تبكي وصوت الريح يندبها حزناً. رحلت حاملة جسماً كئيباً سكنه مرض لا شفاء منه، رحلت وهي تعلّم ابنتها ماذا تقول عند رحيلها؟... وماذا تفعل؟...

رحلت وهي مؤمنة بكل ما حدث معها وبأن الزمن ربما سيأتي بالأفضل..

رحلت حزينة على شبابها وحياتها السابقة التي تجسدت أمامها كمشوار طويل وشريط كان للحظة يعلن النهاية...

رحلت وهي تأمل أن يُمهلها العمر لترى أحد أبنائها الذين ما زالوا صغاراً، وقد أكمل دراسته ليحقّق حلمه في عينيها قبل نهاية الرحلة. لكننا لا نملك أقدارنا ولا نعلم متى تكون ساعات الرحيل. هكذا شعرت قبل أن تلفظ أنفاسها وتسلم الروح إلى بارئها، لكنها رغم هذا كله وقفت لتغير شيئاً فيها، لتمحو انكسارات الزمن المقيت وهي التي سقطت في براثن المرض الذي سرى في جسدها وهي لا تدري... لتتوقف بعدها حياتها.

الصفحات