أنت هنا

قراءة كتاب أسطورة ساش

تنويه: تعرض هنا نبذة من اول ١٠ صفحات فقط من الكتاب الالكتروني، لقراءة الكتاب كاملا اضغط على الزر “اشتر الآن"

‏اللغة: العربية
أسطورة ساش

أسطورة ساش

كتاب " أسطورة ساش " ، تأليف صالح بن إبراهيم السكاكر ، والذي صدر عن دار الفارابي للنشر والتوزيع عام 2010 ، ومما جاء في مقدمة الكتاب:

تقييمك:
0
لا توجد اصوات
الصفحة رقم: 3

(3)

كان كثير التأمل يسرح بخياله وبأفكاره، يرى في كل شيء شيئاً آخر لا يراه إلا هو، كان واسع الخيال يطير بخياله بعيداً عن الوجود وعن الأحداث، يحاول باستمرار أن يكتشف السر في كل شيء، متخيلاً صوراً وهمية لا وجود لها في الواقع يخاطبها وتخاطبه، يناجيها وتناجيه كما يناجي المحب محبوبته! كان دائماً يظل متأملاً فترة طويلة وذلك من أجل أن يشعر بحقائق الحياة وصورها المتعددة. كان يعيش في صراع دائم في داخله، ذلك الداخل الممتلئ بالطموح وبالأحلام، صراع من أجل إثبات الذات وتفجير الكنوز المدفونة، كان دائماً يقول ذلك المتأمل: إن الحياة لغز! لغزٌ كبير! وإنها عجيبة وإنها غدارة! ومن أجل ذلك يجب على كل إنسان أن يجابه اللغز ويبحث عن الإجابة بطريقته هو. ويقول أيضاً: إن اللوحة الفنية حتى وإن كانت خطوطاً بسيطة فهي بحث مستمر عن الحقيقة وهي تحليل لكل موجود وليس تقليداً له.. وهي كذلك بحث عن العلو وليس عن التعالي، فالأول كما يقال حقيقة رائعة والآخر خيال. إنه وحيد يرتدي البساطة ويتغذى بالتأمل ويجلس بالقرب من الطبيعة ليدرك معنى الإبداع والاستغراب! يناجي ذلك الطفل الكائن في كينونته. فدائماً يردد: في كل فنان مهما تغير عرقه وثقافته طفل، طفل يناجيه ويناقشه وأحياناً يعاتبه. إنه الشاعر والرسام والمبدع شاهين، صديقي يسهو في سكينة الليل منتظراً نزول الروح ليبذر في شعره وريشته رياضاً من الإبداع والاختراع! يكتب قصيدة ويضمها بلوحة فنية تجعل المشاهد يبحر ويبحر في عالم غريب، عالم يملأك بالاستغراب، وأنت تتأمل ما يكتب ويرسم ينبثق من داخلك فجأة إنسان آخر يحاورك وتحاوره حواراً مشتركاً بين اثنين! إنه شاهين ذلك الرسام والشاعر والمتأمل، نعم إنه صديقي الفنان الحقيقي الذي يمسك الأشياء من جذورها لينبتها ويعيد تشكيلها بطريقته هو! نعم هو! يعشق الضوء والظل في كل ما يرسم. فكان دائماً يردد: إن كل الأضداد تجتمع في الضوء والظل، الحب والكره، الموت والحياة، الجنة والنار، الليل والنهار، الخير والشر، الحرية والكبت، الظلم والعدل، الحقيقة والباطل.. كل الأضداد تجتمع في الضوء والظل. ومن أجل هذا التباين بين الضوء والظل كان يعشق لوحات الرسام الإيطالي تينتو ريتو ذلك الرسام الذي عاش في القرن السادس عشر الميلادي وتميزت لوحاته بالتباين الشديد بين الضوء والظل وكان صديقي يحلم أن يجعل من ذلك التباين اندماجاً. هذا هو صديقي في غرفته تجد مدرسة مصغرة في الفن التشكيلي بما تحويه من صور لعدد من اللوحات الفنية، إنه عاشق الريشة صديقي...

* * *

.. وأنا أكتب الآن والذكرى ماثلة أمام عيني، صديقي شاهين وتلك اللوحة الكبيرة التي تتوسط غرفته، تلك اللوحة التي لا تجد فيها محتوى رسام من الألوان والخطوط والأشكال وإنما تجد بها ثلاث كلمات تعبر عن ثلاثة أساليب لإدراك الوجود وفهمه ومن ثم تحليله ورسمه: الواقعية، المثالية، التعبيرية. فالواقعية هي محاولة لتصوير العالم كما نراه بالضبط من دون أي تغيير فيه، أما المثالية فهي تبدأ من أساس واقعي وبعد ذلك تنتقي ما تشاء من عالم المحسوسات والمرئيات، أما التعبيرية فهي مبنية على العواطف الذاتية للفنان، فالفن هو نقل للعاطفة كما ذكر ذلك تولستوي... إنك عندما تترك تلك اللوحة وتتأمل ما بجانبها هناك تجد لوحة مطبوعة للفنان فان كوخ وأخرى للرسام الغريكو وخلف سريره تجد لوحة مطبوعة للرسام بول غوغان ذلك الرسام الذي بنيت المدرسة الفنية التي تسمي نفسها بالوحوش عليه. وهي مدرسة تهتم بالزخرفة في الرسم. وبعد أن تلتفت يميناً تجد لوحة مصورة للرسام بول سيزان رائد الحركة التكعيبية وهي الحركة التي ترسم الأشياء وكأنها تلمسها من جميع الجهات، وبجانبها تجد لوحة مطبوعة لذلك الرسام الخطير جداً والأكثر ذكاء بابليو بيكاسو (5)، وتتربع على جدران غرفته لوحات مصورة للرسام والفيلسوف والشاعر جبران خليل جبران فهو العاشق المتيم بجبران.

* * *

هذا هو صديقي شاهين، إنه يحاول العثور على شيء ما أو أمر موجود أصلاً حقيقة كائنة ولكن معناها أو مكان وجودها أو كيفية استغلالها واستعمالها ظلت غامضة منذ عرف الكون! إنه يحاول أن يكتشف في كل إنسان الشيء الغامض المبهم، الشيء الذي لا يراه الإنسان بنفسه، ذلك هو شاهين الرسام! كم أبكي الآن وأنا أتذكر ريشته، كم أبكي وأنا أشاهد لوحاته متأملاً تلك الألوان المندمجة المتفاعلة بعضها مع بعض، وأظل أتأمل لوحاته والدموع تشيعني معلنة أن الليالي التي مضت قد خلقت الذكريات، معلنة أن الدنيا قد ظلمت شاهين! والذكرى تزداد صراخاً في داخلي...

ذكريات الأمس الماضية..

أبحرت بي فوق الأمواج العاتية..

ذكرتني الذكريات بأصدقاء..

لهم داخل قلبي إخاء..

والسنوات مرت الآن والذكرى تعيد إلي تلك الحادثة التي لن أنساها ما حييت عندما اتصلت بشاهين والفرح يملأ عقلي وكل جسدي! نعم فرح النجاح، فرح العودة! قلت له قبل كل شيء: أين أنت يا صديق الروح؟ كنت أريد أن أقابله وأن أبشره. نعم أبشره. فهو يعرف أن سامي ذلك الكاتب القصصي قد مرت عليه ظروف نفسية جعلته يبتعد عن أجواء الكتابة، كنت أريد أن أعطيه قصة كتبتها في يوم واحد، نعم لقد تفجرت في ذلك اليوم الغريب من أيام الشتاء، كتبت وكتبت وعندما أنهيت الكتابة لم أفعل ولم أفكر إلا في أن أبشر أعز البشر شاهين، قابلته وأعطيته القصة، تلك القصة التي تتحدث عن الفوضى، فوضى العواطف والمشاعر لدى البشر، تتحدث عن الحب العذري الذي يكتمل بالارتباط، كنت فرحاً وأنا أتأمل نظرات صاحبي تلك النظرات التي تزرع الثقة وتحييها في شخص سامي، كم كنت سعيداً وأنا أمسك القصة. عشرون ورقة، عشرون ورقة أخرجتها من روحي ومن قلبي! عشرون ورقة أول من لمسها وقرأها صديقي شاهين، عشرون ورقة هي الأقرب إلى روحي، أعطيته الأوراق وتركته ليتفرغ لقراءتها. خرجت مسرعاً أمشي والسعادة تملأ روحي، لست عاشقاً عادت إليه معشوقته ولست أباً ينتظر رجوع ولده وفجأة رجع والنجاح وسامه، لا لست أي شيء! بل أنا كاتب وأحاول أن أصبح كاتباً بكل ما في هذه الكلمة من جبروت وعظمة! إني سعيد جداً لأن القلم عاد إليّ، أحسست أن الدنيا لا شيء أمام سعادتي! كيف يتكون العشق بين كاتب وقلم! كيف يتحول هذا العشق إلى جنون؟ نعم كنت كذلك في ذلك اليوم لقد عاد إليّ معشوقي! بعد أن تركت صديقي خرجت أمشي والفرح يُظهر علامات من الابتسامات! لقد كنت الأسعد في ذلك الوقت، وبينما أنا والسعادة نمشي في الشوارع اتصل بي شاهين طالباً مني أن أعود إليه، وكنت تركته قبل ثلاث ساعات تقريباً وبسرعة البرق توجهت إلى غرفة شاهين، دخلت الغرفة وإذ به يستقبلني ويمد لي لوحة! نعم لوحة قد وقع في ركنها كاتباً (العفاف) قلت له والاندهاش يمتلكني: ما هذه اللوحة الرائعة؟ قال لي وتقاسيم وجهه تمتلئ بالمحبة والود: هي لك! رددت عليه والحيرة تقتحم تفاصيل وجهي الفرح: لي أنا لماذا؟ فرد عليّ صديقي قائلاً: هذه لوحة رسمتها ريشتي قبل ساعة تمثل أبطال قصتك! عندما سمعت ما قال لم أستطع أن أرد أو أن أتكلم أو أن أعبر، لقد أُصبت بالعجز ولم استطع خلق الكلمات وأنا الكاتب! لقد كان الموقف أكبر من كل الدنيا، بدأت نظرات الصداقة تكمل سرد الحكاية، اقتربت منه وقبلت جبينه! أتعلمون لماذا قبلت جبينه؟! لأنه بهذه اللوحة قد حقق لي أحد أحلامي بأن يرسم فنان أبطال قصصي كالعمالقة! وأنا أتذكر تلك الحادثة أتساءل: هل يوجد أصدقاء في هذه الدنيا مثلنا؟ هل يوجد ارتباط وانسجام روحي مثلنا؟ هل يوجد إحساس بالطرف الآخر ومعرفة بمشاعره كما يحصل بيننا؟ نعم كنا ثلاثة أصدقاء...

هذا هو شاهين صديقي الشاعر والرسام والمتأمل والطيب لقد كان أطولنا وأكثرنا هيبة جسدية تمنحه طلة شامخة، وكانت الحبوب تتناثر على وجهه من أجل ذلك كان دائماً يردد: "هذا هو جزاء الرسام". هذا هو شاهين يدرس في كلية الفن التشكيلي والحالم بأن يصبح كجبران فيلسوفاً ورساماً وشاعراً. لذلك كان يدرس في النهار ويرسم في الليل وحدته وعزلته ويكتب القصائد كل ذلك من أجل أن يثبت وجوده، كان يحلم بأن يكمل دراسته في الفن التشكيلي بإيطاليا، نعم هذا هو شاهين ينبوع من القوة والعظمة والإرادة وأيضاً من الشفقة والشعور بالآخرين.. هذا هو صديقي شاهين.. كنا ثلاثة أصدقاء كالنجوم تتلألأ في السماء.

الصفحات